وبذلك يظهر موقع إدماج قوله ﴿ في كبد ﴾ لأن المقصود التنظير بين الخلْقين الأول والثاني في أنهما من مقدور الله تعالى.
والظرفية من قوله :﴿ في كبد ﴾ مستعملة مجازاً في الملازمة فكأنه مظروف في الكَبَد، ونظيره قوله :﴿ بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم ﴾ [ سبأ : ٨، ٩ ] الآية.
فالمراد : عذاب الدنيا، وهو مشقة اضطراب البال في التكذيب واختلاققِ المعاذير والحيرة من الأمر على أحد التفسيرين لتلك الآية.
فالمعنى : أن الكَبَد ملازم للمشرك من حين اتصافه بالإِشراك وهو حين تقوُّم العقل وكماللِ الإدراك.
ومن الجائز أن يجعل قوله :﴿ لقد خلقنا الإنسان في كبد ﴾ من قبيل القلب المقبول لتضمنه اعتباراً لطيفاً وهو شدة تلبّس الكَبد بالإِنسان المشرك حتى كأنه خُلِق في الكَبَد.
والمعنى : لقد خلقنا الكَبَد في الإنسان الكافر.
وللمفسرين تأويلات أخرى في معنى الآية لا يساعد عليها السياق.
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥)
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة :﴿ لقد خلقنا الإنسان في كبد ﴾ [ البلد : ٤ ].
والاستفهام مستعمل في التوبيخ والتخْطئة.
وضمير ﴿ أيَحْسِبُ ﴾ راجع إلى الإِنسان لا محالة، ومن آثار الحيرة في معنى ﴿ لقد خلقنا الإنسان في كبد ﴾ [ البلد : ٤ ] أن بعض المفسرين جعل ضمير ﴿ أَيَحْسِبُ ﴾ راجعاً إلى بعض مما يعمه لفظ الإِنسان مثل أبي الأشد الجمحي، وهو ضغث على إبّالة.
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (٦)
أعقبت مساوي نفسه بمذام أقواله، وهو التفخر الكاذب والتمدح بإتلاف المال في غير صلاح.
وقد كان أهل الجاهلية يتبجحون بإتلاف المال ويعدونه منقبة لإيذانه بقلة اكتراث صاحبه به، قال عنترة:
وإذَا سَكِرْتُ فإنَّنِي مُسْتَهْلِكٌ...
مالي وعِرضي وافرٌ لم يُكْلَمِ
وَإذَا صَحَوْتُ فَما أقَصِّر عن نَدى...
وَكَما عَلِمْتَ شمائلي وتكَرُّمِي


الصفحة التالية
Icon