وظاهر لفظ البناء يدل على أن للسماء جرما وهذا كاف للرد على من يقول أن السماء خلاء تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوا كبيرا، كيف وقد قال اللّه (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) الآية ٥٧ من سورة غافر من ج ٢.
فإذا كانت خلاء كما يزعمون فليست بأعظم من خلق الناس إذ لا أعظم من خلقه
إلا خلقها، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية المذكورة والآية ٤٧ من سورة الذاريات من ج ٢ أيضا فراجعها، قال تعالى "وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ٧" أبدعها وأنشأها وعدل أعضائها وسوى خلقها على غير مثال سابق في أحسن صورة هذا على جعل ما مصدريه، لا وصفيه، وهو الصواب ويجوز أن تجعل ما، بمعنى من، وعليه فتقول والذي سواها والذي بناها والذي طحاها وهكذا، ونكّر لفظ النفس للتكثير ولتشمل آدم ومن بعده إذا أريد بالنفس الجسد، وإذا أريد بها المعنى القائم بالجسد فيكون معنى سوّاها أعطاها القوى الكثيرة كالناطقة والسامعة والشامة واللامسة والذائقة والمخيلة والمفكرة والمدبرة والحافظة والباصرة وغيرها من القوى التي أودعها اللّه فيها ليفكر الإنسان في آلاء اللّه ويتدبر في مصنوعاته ويعقل كيفية مخلوقاته، هذا ومعنى قوله تعالى "فَأَلْهَمَها" أي فهم أو علم تلك النفس ما يضرها وينفعها وبين لها الحالتين اللتين يؤول الإنسان إلى أحدهما "فُجُورَها" وما يؤول اليه من العذاب وثانيتها "وَتَقْواها ٨" وما يوصل اليه من الثواب بحيث عرّفها ما تأتي وما تذر وما تأخذ وما تتقي وعاقبة كل من ذلك روى مسلم عن جابر قال جاء سراحة بن مالك بن خثعم فقال يا رسول اللّه بيّن لنا ربنا أمر ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أو فيما يستقبل قال لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، قال ففيم العمل ؟ قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له.