وأقول قد ذكرنا أن الآيات الثلاثة ذكرت للدلالة على كونه سبحانه مدبراً للأجسام العلوية والسفلية البسيطة والمركبة، فههنا لم يبق شيء مما في عالم المحسوسات إلا وقد ثبت بمقتضى ذلك التنبيه أنه واقع بتخليقه وتدبيره، بقي شيء واحد يختلج في القلب أنه هل هو بقضائه وقدره وهو الأفعال الحيوانية الاختيارية، فنبه سبحانه بقوله :﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ على أن ذلك أيضاً منه وبه وبقضائه وقدره، وحينئذ ثبت أن كل ما سوى الله فهو واقع بقضائه وقدره.
وداخل تحت إيجاده وتصرفه.
ثم الذي يدل عقلاً على أن المراد من قوله :﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ هو الخذلان والتوفيق ما ذكرنا مراراً أن الأفعال الاختيارية موقوفة على حصول الاختيارات، فحصولها إن كان لا عن فاعل فقد استغنى المحدث عن الفاعل، وفيه نفي الصانع، وإن كان عن فاعل هو العبد لزم التسلسل، وإن كان عن الله فهو المقصود، وأيضاً فليجرب العاقل نفسه.
فإنه ربما كان الإنسان غافلاً عن شيء فتقع صورته في قلبه دفعة، ويترتب على وقوع تلك الصورة في القلب ميل إليه، ويترتب على ذلك الميل حركة الأعضاء وصدور الفعل، وذلك يفيد القطع بأن المراد من قوله :﴿فَأَلْهَمَهَا﴾ ما ذكرناه لا ما ذكره المعتزلة.
أما قوله تعالى :
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩)
فاعلم أن التزكية عبارة عن التطهير أو عن الإنماء، وفي الآية قولان أحدهما : أنه قد أدرك مطلوبه من زكى نفسه بأن طهرها من الذنوب بفعل الطاعة ومجانبة المعصية والثاني : قد أفلح من زكاها الله، وقبل القاضي هذا التأويل، وقال المراد منه أن الله حكم بتزكيتها وسماها بذلك، كما يقال في العرف : إن فلاناً يزكي فلاناً، ثم قال : والأول أقرب، لأن ذكر النفس قد تقدم ظاهراً، فرد الضمير عليه أولى من رده على ما هو في حكم المذكور لا أنه مذكور.


الصفحة التالية
Icon