واعلم أنا قد دللنا بالبرهان القاطع أن المراد، بألهمها ما ذكرناه فوجب حمل اللفظ عليه.
وأما قوله بأن هذا محمول على الحكم والتسمية فهو ضعيف، لأن بناء التفعيلات على التكوين، ثم إن سلمنا ذلك لكن ما حكم الله به يمتنع تغيره، لأن تغير المحكوم به يستلزم تغير الحكم من الصدق إلى الكذب، وتغير العلم إلى الجهل وذلك محال، والمفضي إلى المحال محال.
أما قوله ذكر النفس قد تقدم، قلنا : هذا بالعكس أولى، فإن أهل اللغة اتفقوا على أن عود الضمير إلى الأقرب أولى من عوده إلى الأبعد، وقوله :﴿فَأَلْهَمَهَا﴾ أقرب إلى قوله :﴿مَا﴾ منه إلى قوله :﴿وَنَفْسٍ﴾ فكان الترجيح لما ذكرناه، ومما يؤكد هذا التأويل ما رواه الواحدي في البسيط عن سعيد بن أبي هلال أنه عليه السلام كان إذا قرأ :﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها﴾ وقف وقال :" اللهم آت نفسي تقواها، أنت وليها وأنت مولاها، وزكها أنت خير من زكاها " أما قوله تعالى :
وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (١٠)
فقالوا :﴿دساها﴾ أصله دسسها من التدسيس، وهو إخفاء الشيء في الشيء، فأبدلت إحدى السينات ياء، فأصل دسى دسس، كما أن أصل تقضى البازي تقضض البازي، وكما قالوا : الببت والأصل لببت، وملبي والأصل ملبب، ثم نقول : أما المعتزلة فذكروا وجوهاً توافق قولهم : أحدها : أن أهل الصلاح يظهرون أنفسهم، وأهل الفسق يخفون أنفسهم ويدسونها في المواضع الخفية، كما أن أجواد العرب ينزلون الربا حتى تشتهر أماكنهم ويقصدهم المحتاجون، ويوقدون النيران بالليل للطارقين.