وإذا قرنت بين الآية وبين الحديث المذكور كان الاستئناف جواباً عن قوله لجبريل :" ما أنا بقارىء " فالمعنى : لا عجب في أن تقرأ وإن لم تكن من قبل عالماً بالقراءة إذ العلم بالقراءة يحصل بوسائل أخرى مثل الإِملاء والتلقين والإِلهام وقد علم الله آدم الأسماء ولم يكن آدم قارئاً.
ومقتضى الظاهر : وعَلَّم بالقلم.
فعُدل عن الإِضمار لتأكيد ما يشعر به ﴿ ربّك ﴾ من العناية المستفادة من قوله :﴿ اقرأ باسم ربك ﴾ وأن هذه القراءة شأن من شؤون الرب اختص بها عبدَه إتماماً لنعمة الربوبية عليه.
وليجري على لفظ الرب وصفُ الأكرم.
ووصف ﴿ الأكرم ﴾ مصوغ للدلالة على قوة الاتصاف بالكرم وليس مصوغاً للمفاضلة فهو مسلوب المفاضلة.
والكرم : التفضل بعطاء ما ينفع المعطَى، ونعم الله عظيمة لا تُحصى ابتداء من نعمة الإِيجاد، وكيفية الخلق، والإِمداد.
وقد جمعت هذه الآيات الخمسُ من أول السورة أصول الصفات الإلهية فوَصفُ الرب يتضمن الوجود والوحدانية، ووصف ﴿ الذي خلق ﴾ ووصف ﴿ الذي علم بالقلم ﴾ يقتضيان صفات الأفعال، مع ما فيه من الاستدلال القريب على ثبوت ما أشير إليه من الصفات بما تقتضيه الموصولية من الإِيماء إلى وجه بناء الخبر الذي يذكر معها.
ووصف ﴿ الأكرم ﴾ يتضمن صفات الكمال والتنزيه عن النقائص.
ومفعولا ﴿ علم بالقلم ﴾ محذوفان دل عليهما قوله :﴿ بالقلم ﴾ وتقديره : علّم الكاتبين أو علّم ناساً الكتابة، وكان العرب يعظمون علم الكتابة ويعدونها من خصائص أهل الكتاب كما قال أبو حية النُّميري :
كما خُطّ الكتابُ بكفِّ يَوماً
يَهُودِيَ يقارِب أو يُزيل...
ويتفاخر من يعرف الكتابة بعِلمه وقال الشاعر :
تعلّمْتُ بَاجَاد وآل
مُرَامِرٍ وسوَّدت أثوابي ولستُ بكاتب...