﴿مَا تَتْلُواْ الشياطين﴾ [ البقرة : ١٠٢ ] أي ما تلت، والمعنى أنهم ما كانوا منفكين عن ذكر مناقبه، ثم لما جاءهم محمد تفرقوا فيه، وقال كل واحد فيه قولاً آخر ردياً ونظيره قوله تعالى :﴿وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ﴾ [ البقرة : ٨٩ ] والقول المختار في هذه الآية هو الأول، وفي الآية وجه رابع وهو أنه تعالى حكم على الكفار أنهم ما كانوا منفكين عن كفرهم إلى وقت مجيء الرسول، وكلمة حتى تقتضي أن يكون الحال بعد ذلك، بخلاف ما كان قبل ذلك، والأمر هكذا كان لأن ذلك المجموع ما بقوا على الكفر بل تفرقوا فمنهم من صار مؤمناً، ومنهم من صار كافراً، ولما لم يبق حال أولئك الجمع بعد مجيء الرسول كما كان قبل مجيئه، كفى ذلك في العمل بمدلول لفظ حتى، وفيها وجه خامس : وهو أن الكفار كانوا قبل مبعث الرسول منفكين عن التردد في كفرهم بل كانوا جازمين به معتقدين حقيقته، ثم زال ذلك الجزم بعد مبعث الرسول، بل بقوا شاكين متحيرين في ذلك الدين وفي سائر الأديان، ونظيره قوله :﴿كَانَ الناس أُمَّةً واحدة فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ [ البقرة : ٢١٣ ] والمعنى أن الدين الذي كانوا عليه صار كأنه اختلط بلحمهم ودمهم فاليهودي كان جازماً في يهوديته وكذا النصراني وعابد الوثن، فلما بعث محمد عليه الصلاة والسلام : اضطربت الخواطر والأفكار وتشكك كل أحد في دينه ومذهبه ومقالته، وقوله :﴿مُنفَكّينَ﴾ مشعر بهذا لأن انفكاك الشيء عن الشيء هو انفصاله عنه، فمعناه أن قلوبهم ما خلت عن تلك العقائد وما انفصلت عن الجزم بصحتها، ثم إن بعد المبعث لم يبق الأمر على تلك الحالة.
المسألة الثانية :