ولعل ذكر الذرة هنا على سبيل المثال لمعرفتهم لصغرها، لأنه تعالى عمم العمل في قوله :﴿ يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾ [ النبأ : ٤٠ ]، أيا كان هو مثقال ذرة أو مثاقيل القناطير، وقد جاء النص صريحاً بذلك في قوله تعالى :﴿ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾
[ يونس : ٦١ ].
وهنا تنبيهان : الأول من ناحية الأصول، وهو أن النص على مثقال الذرة من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فلا يمنع رؤية مثاقيل الجبال، بل هي أولى وأحرى.
وهذا عند الأصوليين ما يسمى الإلحاق بنفي الفارق، وقد يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به، وقد يكون مساوياً له، فمن الأول هذه الآية وقوله :﴿ فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ]، ومن المساوي قوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً ﴾ [ النساء : ١٠ ]، فإن إحراق ماله وإغراقه ملحق بأكله، بنفي الفارق وهو مساوٍ لأكله في عموم الإتلاف عليه، وهو عند الشافعي ما يمسى القياس في معنى الأصل، أي النص.
التنبيه الثاني في قوله تعالى :﴿ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ﴾ [ يونس : ٦١ ].
رد على بعض المتكلمين في العصر الحاضر، والمسمى بعصر الذرة، إذ قالوا : لقد اعتبر القرآن الذرة أصغر شيء، وأنها لا تقبل التقسيم، كما يقول المناطقة : إنها الجوهر الفرد، الذي لا يقبل الانقسام.
وجاء العلم الحديث، ففتنت الذرة وجعل لها أجزاء. ووجه الرد على تلك المقالة الجديدة، على آيات من كتاب الله هو النص الصريح من مثقال ذرة ولا أصغر من ذلك إلا في كتاب.


الصفحة التالية
Icon