ثم يعتبر بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب، بعد أن قاد الجيوش والعساكر، ونافس الأصحاب والعشائر، وجمع الأموال والذخائر ؛ فجاءه الموت في وقت لم يحتسبه، وهول لم يرتقبه.
فليتأمّل الزائر حال من مضى من إخوانه، ودَرَجَ من أقرانه الذين بلغوا الآمال، وجمعوا الأموال ؛ كيف انقطعت آمالهم، ولم تغن عنهم أموالهم، ومحا التراب محاسن وجوههم، وافترقت في القبور أجزاؤهم، وترمّل من بعدهم نساؤهم، وشَمِل ذل اليتيم أولادهم، واقتسم غيرهم طريفهم وتِلادهم.
وليتذكر تردّدهم في المآرب، وحرصهم على نيل المطالب، وانخداعهم لمواتاة الأسباب، وركونهم إلى الصحة والشباب.
وليعلم أن ميله إلى اللهو واللعب كميلهم، وغفلته عما بين يديه من الموت الفظيع، والهلاك السريع، كغفلتهم، وأنه لا بدّ صائر إلى مصيرهم، ولْيُحضر بقلبه ذِكر من كان متردّداً في أغراضه، وكيف تهدّمت رجلاه، وكان يتلذذ بالنظر إلى ما خُوِّلَه وقد سالت عيناه، ويصول ببلاغة نطقه وقد أكل الدود لسانه، ويضحك لمواتاة دهره وقد أبلى التراب أسنانه، وليتحقق أن حاله كحاله، ومآله كمآله.
وعند هذا التذكُّر والاعتبار تزول عنه جميع الأغيار الدنيوية، ويقبل على الأعمال الأخروية، فيزهد في دنياه، ويقبل على طاعة مولاه، ويلين قلبه، وتخشع جوارحه.
كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤)
قوله تعالى :﴿ كَلاَّ ﴾ قال الفرّاء : أي ليس الأمر على ما أنتم عليه من التفاخر والتكاثر والتمام على هذا ﴿ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي سوف تعلمون عاقبة هذا.
﴿ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ : وعِيد بعد وعيد ؛ قاله مجاهد.
ويحتمل أن يكون تكراره على وجه التأكيد والتغليظ ؛ وهو قول الفرّاء.
وقال ابن عباس :"كلا سوف تعلمون" ما ينزل بكم من العذاب في القبر.
"ثم كلا سوف تعلمون" في الآخرة إذا حل بكم العذاب.


الصفحة التالية
Icon