ولما كان في الإنسان قوى أربع : شهوانية بهيمية، وغضبية سَبُعية ووهمية شيطانية تبعث مع مساعدة القوتين الأخريين على المنازعة والمغالبة في كل شيء، وعقلية ملكية ؛ وكان المقصود من جميع العبادات قهر القوى الثلاث لأن منشأ الشرور كلها محصور فيها بالعقلية قال دالاً عليها محذراً منها مرتبة :﴿فلا رفث﴾ أي مواجهة للنساء بشيء من أمور النكاح. ولما كان الرفث هو داعياً إلى الوقاع الذي هو فسق بالخروج عن الإحرام الصحيح قال ضاماً إليه كل ما دخل في هذا الاسم :﴿ولا فسوق﴾ قال الحرالي : هو الخروج عن إحاطة العلم والعقل والطبع - انتهى. ولما كان المراء قد يجر إلى الفسق بما يثير من الإحن وتوعير الصدور فكان فسقاً خاصاً عظيماً ضرره قال :﴿ولا جدال﴾ أي مدافعة بالقول بفتل عن القصد كمدافعة الجلاد باليد أو السيف ولعله عبر بهذا المصدر الذي شأنه أن يكون مزيداً دون الجدل الذي معناه الدرء في الخصومة لأن ينصب النفي على المبالغة فيفهم العفو عن أصله لأنه لا يكاد يسلم منه أحد، وكذا الحال في الفسوق ﴿في الحج﴾ فصار الفسق واسطة بين أمرين جارين إليه والجدال لكونه قد يفسد ذات البين أعظمها خطراً ويجمع ما في الرفث من الشهوة وقد يكون فسقاً فقد اشتمل على قبائح الكل ؛ فلذلك أجمع القراء السبعة على بنائه مع لا على الفتح دون ما قبله لأن البناء دال على نفي الماهية ونفيها موجب لنفي جميع أفرادها، وأما الرفع فإنما يدل على نفي فرد منكر من تلك الماهية وهو لا يوجب نفي جميع الأفراد، ولأن العرب كانوا يبنون الحج على النسيء ويتخالفون فيه في الموقف، فزال الجدال فيه بعد البيان بكل اعتبار من جهة الخدم والعيال وغيرهم والنسيء والموقف وغيرهما من حيث إنه قد علمت مشاعره وتقررت شرائعه وأحكمت شعائره وأوضحت جميع معالمه فارتفع النزاع أصلاً في أمره.


الصفحة التالية
Icon