قلنا : هذا وإن كان محتملاً إلا أن الأصل عدمه، وإذا أمكن حمل الكلام على القول الثاني من غير التزام إلى ما ذكرتم فأي حاجة بنا إلى التزامه.
وأما الإشكال على القول الثاني : فهو أن القول لا يتمشى إلا إذا حملنا لفظ ﴿من حيث﴾ في قوله :﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس﴾ على الزمان، وذلك غير جائز، فإنه مختص بالمكان لا بالزمان.
أجاب القائلون بالقول الأول : عن ذلك السؤال بأن ﴿ثُمَّ﴾ ههنا على مثال ما في قوله تعالى :﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ [البلد : ١٢، ١٣] إلى قوله :﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ﴾ [البلد : ١٧] أي كان مع هذا من المؤمنين، ويقول الرجل لغيره : قد أعطيتك اليوم كذا وكذا، ثم أعطيتك أمس كذا فإن فائدة كلمة ﴿ثُمَّ﴾ ههنا تأخر أحد الخبرين عن الآخر، لا تأخر هذا المخبر عنه عن ذلك المخبر عنه.
وأجاب القائلون بالقول الثاني : بأن التوقيت بالزمان والمكان يتشابهان جداً فلا يبعد جعل اللفظ المستعمل في أحدهما مستعملاً في الآخر على سبيل المجاز.
وأما قوله :﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس﴾ فقد ذكرنا أن المراد من ﴿الناس﴾ إما الواقفون بعرفات وإما إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وأتباعهما، وفيه قول ثالث وهو قول الزهري.
أن المراد بالناس في هذه الآية : آدم عليه السلام، واحتج بقراءة سعيد بن جبير ﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس﴾ وقال : هو آدم نسي ما عهد إليه، ويروى أنه قرأ ﴿الناس﴾ بكسر السين اكتفاء بالكسرة عن الياء، والمعنى : أن الإفاضة من عرفات شرع قديم فلا تتركوه. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ٥ صـ ١٥٤ ـ ١٥٥﴾
وقال ابن عاشور :
الذي عليه جمهور المفسرين أن ثم للتراخي الإخباري للترقى في الخبر وأن الإفاضة المأمور بها هنا هي عين الإفاضة المذكورة في قوله تعالى :﴿فإذا أفضتم من عرفات﴾ [البقرة : ١٩٨] وأن العطف بثم للعودة إلى الكلام على تلك الإفاضة.