اعلم أن الله تعالى بين أولا تفصيل مناسك الحج، ثم أمر بعدها بالذكر، فقال :﴿فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عرفات فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ﴾ ﴿البقرة : ١٩٨ ] ثم بين أن الأولى أن يترك ذكر غيره، وأن يقتصر على ذكره فقال :{فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ ثم بين بعد ذلك الذكر كيفية الدعاء فقال :﴿فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدنيا﴾ وما أحسن هذا الترتيب، فإنه لا بد من تقديم العبادة لكسر النفس وإزالة ظلماتها، ثم بعد العبادة لا بد من الاشتغال بذكر الله تعالى لتنوير القلب وتجلى نور جلاله، ثم بعد ذلك الذكر يشتغل الرجل بالدعاء فإن الدعاء إنما يكمل إذا كان مسبوقاً بالذكر كما حكي عن إبراهيم عليه السلام أنه قدم الذكر فقال :﴿الذى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ ﴿الشعراء : ٧٨ ] ثم قال :{رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بالصالحين﴾ {الشعراء : ٨٣ ] فقدم الذكر على الدعاء.
إذا عرفت هذا فنقول : بين الله تعالى أن الذين يدعون الله فريقان أحدهما : أن يكون دعاؤهم مقصوراً على طلب الدنيا والثاني : الذين يجمعون في الدعاء بين طلب الدنيا وطلب الآخرة، وقد كان في التقسيم قسم ثالث، وهو من يكون دعاؤه مقصوراً على طلب الآخرة، واختلفوا في أن هذا القسم هل هو مشروع أو لا ؟ والأكثرون على أنه غير مشروع، وذلك أن الإنسان خلق محتاجاً ضعيفاً لا طاقة له بآلام الدنيا ولا بمشاق الآخرة، فالأولى له أن يستعيذ بربه من كل شرور الدنيا والآخرة، روى القفال في " تفسيره" عن أنس أن النبي ـ ﷺ ـ دخل على رجل يعوده وقد أنهكه المرض، فقال : ما كنت تدعو الله به قبل هذا قال : كنت أقول.


الصفحة التالية