والوجه الثاني : في لطائف هذه السورة أن السالكين إلى الله تعالى لهم ثلاث درجات : أعلاها أن يكونوا مستغرقين بقلوبهم وأرواحهم في نور جلال الله وثانيها : أن يكونوا مشتغلين بالطاعات والعبادات البدنية وثالثها : أن يكونوا في مقام منع النفس عن الانصباب إلى اللذات المحسوسة والشهوات العاجلة، فقوله :﴿إِنَّا أعطيناك الكوثر﴾ إشارة إلى المقام الأول وهو كون روحه القدسية متميزة عن سائر الأرواح البشرية بالكم والكيف.
أمابالكم فلأنها أكثر مقدمات، وأما بالكيف فلأنها أسرع انتقالاً من تلك المقدمات إلى النتائج من سائر الأرواح، وأما قوله :﴿فَصَلّ لِرَبّكَ﴾ فهو إشارة إلى المرتبة الثانية، وقوله :﴿وانحر﴾ إشارة إلى المرتبة الثالثة، فإن منع النفس عن اللذات العاجلة جار مجرى النحر والذبح، ثم قال :﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر﴾ ومعناه أن النفس التي تدعوك إلى طلب هذه المحسوسات والشهوات العاجلة، أنها دائرة فانية، وإنما الباقيات الصالحات خير عند ربك، وهي السعادات الروحانية والمعارف الربا نية التي هي باقية أبدية.
ولنشرع الآن في التفسير قوله تعالى :﴿إِنَّا أعطيناك الكوثر﴾ اعلم أن فيه فوائد :
الفائدة الأولى : أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها من السور، وكالأصل لما بعدها من السور.
أما أنها كالتتمة لما قبلها من السور، فلأن الله تعالى جعل سورة والضحى في مدح محمد عليه الصلاة والسلام وتفصيل أحواله، فذكر في أول السورة ثلاثة أشياء تتعلق بنبوته أولها : قوله :﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى﴾، وثانيها : قوله :
﴿وَلَلأَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى﴾ [ الضحى : ٤ ] وثالثها :﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى﴾ ثم ختم هذه السورة بذكر ثلاثة أحوال من أحواله عليه السلام فيما يتعلق بالدنيا وهي قوله :﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فاوى وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فهدى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فأغنى ﴾


الصفحة التالية
Icon