[ الصف : ٦ ] وأما الثاني : وهو أن يكون ذلك محمولاً على التعظيم، ففيه تنبيه على عظمة العطية لأن الواهب هو جبار السموات والأرض والموهوب منه، هو المشار إليه بكاف الخطاب في قوله تعالى :﴿إِنَّا أعطيناك﴾ والهبة هي الشيء المسمى بالكوثر، وهو ما يفيد المبالغة في الكثرة، ولما أشعر اللفظ بعظم الواهب والموهوب منه والموهوب، فيالها من نعمة ما أعظمها، وما أجلها، وياله من تشريف ما أعلاه.
الفائدة الثالثة : أن الهدية وإن كانت قليلة لكنها بسبب كونها واصلة من المهدي العظيم تصير عظيمة، ولذلك فإن الملك العظيم إذا رمى تفاحة لبعض عبيده على سبيل الإكرام يعد ذلك إكراماً عظيماً، لا لأن لذة الهدية في نفسها، بل لأن صدورها من المهدي العظيم يوجب كونها عظيمة، فههنا الكوثر وإن كان في نفسه في غاية الكثرة، لكنه بسبب صدوره من ملك الخلائق يزداد عظمة وكمالاً.
الفائدة الرابعة : أنه لما قال :﴿أعطيناك﴾ قرن به قرينة دالة على أنه لا يسترجعها، وذلك لأن من مذهب أبي حنيفة أنه يجوز للأجنبي أن يسترجع موهوبه، فإن أخذ عوضاً وإن قل لم يجز له ذلك الرجوع، لأن من وهب شيئاً يساوي ألف دينار إنساناً، ثم طلب منه مشطاً يساوي فلساً فأعطاه، سقط حق الرجوع فههنا لما قال :﴿إِنَّا أعطيناك الكوثر﴾ طلب منه الصلاة والنحر وفائدته إسقاط حق الرجوع.
الفائدة الخامسة : أنه بنى الفعل على المبتدأ، وذلك يفيد التأكيد والدليل عليه أنك لما ذكرت الاسم المحدث عنه عرف العقل أنه يخبر عنه بأمر فيصبر مشتاقاً إلى معرفة أنه بماذا يخبر عنه، فإذا ذكر ذلك الخبر قبله قبول العاشق لمعشوقه، فيكون ذلك أبلغ في التحقيق ونفى الشبهة ومن ههنا تعرف الفخامة في قوله :
﴿فَإِنَّهَا لاَ تعمى الأبصار﴾ [ الحج : ٤٦ ] فإنه أكثر فخامة مما لو قال : فإن الأبصار لا تعمى، ومما يحقق قولنا قول الملك العظيم لمن يعده ويضمن له : أنا أعطيك، أنا أكفيك، أنا أقوم بأمرك.