وقيل : بعكس هذا، وهو أن الجملتين الأوليين للحال، والجملتين الأخريين للاستقبال بدليل قوله :﴿ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴾ كما لو قال القائل : أنا ضارب زيداً، وأنا قاتل عمراً، فإنه لا يفهم منه إلاّ الاستقبال.
قال الأخفش، والفرّاء : المعنى لا أعبد الساعة ما تعبدون، ولا أنتم عابدون الساعة ما أعبد، ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد.
قال الزجاج : نفى رسول الله ﷺ بهذه السورة عبادة آلهتهم عن نفسه في الحال وفيما يستقبل، ونفى عنهم عبادة الله في الحال وفيما يستقبل.
وقيل : إن كل واحد منهما يصلح للحال، والاستقبال، ولكنا نخص أحدهما بالحال، والثاني بالاستقبال رفعاً للتكرار.
وكل هذا فيه من التكلف والتعسف مالا يخفى على منصف، فإن جعل قوله : ولا ﴿ أعبد ما تعبدون ﴾ للاستقبال، وإن كان صحيحاً على مقتضى اللغة العربية، ولكنه لا يتمّ جعل قوله :﴿ وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ ﴾ للاستقبال ؛ لأن الجملة اسمية تفيد الدوام، والثبات في كل الأوقات، فدخول النفي عليها يرفع ما دلت عليه من الدوام، والثبات في كل الأوقات، ولو كان حملها على الاستقبال صحيحاً للزم مثله في قوله :﴿ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴾ وفي قوله :﴿ وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ ﴾ فلا يتمّ ما قيل من حمل الجملتين الأخريين على الحال، وكما يندفع هذا يندفع ما قيل من العكس، لأن الجملة الثانية، والثالثة، والرابعة كلها جمل اسمية مصدرة بالضمائر التي هي المبتدأ في كل واحد منها مخبر عنها باسم الفاعل العامل فيما بعده منفية كلها بحرف واحد، وهو لفظ لا في كل واحد منها، فكيف يصح القول مع هذا الاتحاد بأن معانيها في الحال والاستقبال مختلفة.