وأما قول من قال : إن كل واحد منها يصلح للحال والاستقبال، فهو إقرار منه بالتكرار ؛ لأن حمل هذا على معنى، وحمل هذا على معنى مع الاتحاد يكون من باب التحكم الذي لا يدلّ عليه دليل.
وإذا تقرّر لك هذا، فاعلم أن القرآن نزل بلسان العرب، ومن مذاهبهم التي لا تجحد، واستعمالاتهم التي لا تنكر أنهم إذا أرادوا التأكيد كرّروا ؛ كما أن مذاهبهم أنهم إذا أرادوا الاختصار أوجزوا، هذا معلوم لكل من له علم بلغة العرب، وهذا مما لا يحتاج إلى إقامة البرهان عليه ؛ لأنه إنما يستدل على ما فيه خفاء، ويبرهن على ما هو متنازع فيه.
وأما ما كان من الوضوح، والظهور والجلاء بحيث لا يشك فيه شاك، ولا يرتاب فيه مرتاب، فهو مستغن عن التطويل غير محتاج إلى تكثير القال والقيل.
وقد وقع في القرآن من هذا ما يعلمه كل من يتلو القرآن، وربما يكثر في بعض السور، كما في سورة الرحمن، وسورة المرسلات، وفي أشعار العرب من هذا ما لا يأتي عليه الحصر، ومن ذلك قول الشاعر :
يا لبكر انشروا لي كليبا... يا لبكر أين أين الفرار
وقول الآخر :
هلا سألت جموع كن... دة يوم ولوا أين أينا
وقول الآخر :
يا علقمة يا علقمة يا علقمه... خير تميم كلها وأكرمه
وقول الآخر :
ألا يا اسلمى ثم اسلمى ثمت اسلمى... ثلاث تحيات وإن لم تكلم
وقول الآخر :
يا جعفر يا جعفر يا جعفر... إن أك دحداحاً فأنت أقصر
وقول الآخر :
أتاك أتاك اللاحقون احبس احبس... وقد ثبت عن الصادق المصدوق، وهو أفصح من نطق بلغة العرب أنه كان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاث مرات، وإذا عرفت هذا، ففائدة ما وقع في السورة من التأكيد هو قطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول الله ﷺ إلى ما سألوه من عبادته آلهتهم، وإنما عبر سبحانه بما التي لغير العقلاء في المواضع الأربعة ؛ لأنه يجوز ذلك كما في قوله : سبحان ما سخركن لنا، ونحوه، والنكتة في ذلك أن يجري الكلام على نمط واحد، ولا يختلف.