فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ :" جَاءَ رَبُّك " بِمَعْنَى جَاءَ كِتَابُهُ، أَوْ جَاءَ رَسُولُهُ، أَوْ مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ ؟ قِيلَ لَهُ : هَذَا مَجَازٌ، وَالْمُجَازُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :﴿ وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ﴾ وَهُوَ يُرِيدُ أَهْلَ الْقَرْيَةِ، وَقَالَ :﴿ إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ وَهُوَ يَعْنِي، أَوْلِيَاءَ اللَّهِ.
وَالْمَجَازُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى
اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ، أَوْ فِيمَا لَا يَشْتَبِهُ مَعْنَاهُ عَلَى السَّامِعِ.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ الْأُمُورُ كُلُّهَا قَبْلَ أَنْ يُمَلِّكَ الْعِبَادَ شَيْئًا مِنْهَا لَهُ خَاصَّةً، ثُمَّ مَلَّكَهُمْ كَثِيرًا مِنْ الْأُمُورِ، ثُمَّ تَكُونُ الْأُمُورُ كُلُّهَا فِي الْآخِرَةِ إلَيْهِ دُونَ خَلْقِهِ، جَازَ أَنْ يَقُولَ : تُرْجَعُ إلَيْهِ الْأُمُورُ.
وَالْمَعْنَى الْآخَرُ : أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ :﴿ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا غَيْرُهُ، لَا عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكِنْ إلَيْهِ ثُمَّ صَارَتْ إلَيْهِ، لَكِنْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ سِوَاهُ، كَمَا قَالَ لَبِيدٌ : وَمَا الْمَرْءُ إلَّا كَالشِّهَابِ وَضَوْئِهِ يَحُورُ رَمَادًا بَعْدَ إذْ هُوَ سَاطِعُ وَإِنَّمَا عَنَى أَنَّهُ يَصِيرُ رَمَادًا لَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ رَمَادًا مَرَّةً ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا كَانَ.﴿أحكام القرآن للجصاص حـ ١ صـ ٣٩٧ ﴾


الصفحة التالية
Icon