وقال ابن عاشور :
قوله تعالى :﴿وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ ﴾
عطف على جملة ﴿أنزل معهم الكتاب بالحق﴾ لبيان حقيقة أخرى من أحوال اختلاف الأمم وهو الاختلاف بين أهل الكتاب بعضهم مع بعض وبين أهل الكتاب الواحد مع تلقيهم ديناً واحداً، والمعنى وأنزل معهم الكتاب بالحق فاختلف فيه كما قال تعالى :﴿ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه﴾ ﴿هود : ١١٠ ]. والمعنى وما اختلف فيه إلا أقوامهم الذين أوتوا كتبهم فاستغنى بجملة القصر عن الجملة الأخرى لتضمن جملة القصر إثباتاً ونفياً. فاللَّه بعث الرسل لإبطال الضلال الحاصل من جهل البشر بصلاحهم فجاءت الرسل بالهدى، اتبعهم من اتبعهم فاهتدى وأعرض عنهم من أعرض فبقي في ضلالة، فإرسال الرسل لإبطال الاختلاف بين الحق والباطل، ثم أحدث اتباع الرسل بعدهم اختلافاً آخر وهو اختلاف كل قوم في نفس شريعتهم. والمقصود من هذا بيان عجيب حال البشر في تسرعهم إلى الضلال، وهي حقيقة تاريخية من تاريخ الشرائع، وتحذير المسلمين من الوقوع في مثل ذلك.
والتعريض بأهل الكتاب وهم أشهر أهل الشرائع يومئذٍ فيما صنعوا بكتبهم من الاختلاف فيها، وهذا من بديع استطراد القرآن في توبيخ أهل الكتاب وخاصة اليهود وهي طريقة عربية بليغة قال زهير
:... إن البخيل ملوم حين كان
ولكن الجوادَ على علاَّته هرم... وقال الفرزدق يمدح الخليفة ويستطرد بهجاء جرير
:... إلى مَلِك ما أُمُّه من مُحَارِب
أبُوه ولا كانَتْ كُلَيْبٌ تصاهره... والضمير من قوله :{فيه﴾
يجوز أن يعود إلى الكتاب وأن يعود إلى الحق الذي تضمنه الكتاب، والمعنى على التقديرين واحد، لأن الكتاب أنزل ملابساً للحق ومصاحباً له فإذا اختلف في الكتاب اختلف في الحق الذي فيه وبالعكس على طريقة قياس المساواة في المنطق.
في تحريف المراد منه مذهباً يخالف مذهب الآخر في أصول الشرع لا في الفروع، فإن الاختلاف في أصوله يعطل المقصود منه.


الصفحة التالية
Icon