أما السمعية فقد حصلت بإيتاء الكتاب، وأما العقلية فقد حصلت بالبينات المتقدمة على إيتاء الكتاب فعند ذلك قد تمت البينات ولم يبق في العدول عذر ولا علة، فلو حصل الإعراض والعدول لم يكن ذلك إلا بحسب الحسد والبغي والحرص على طلب الدنيا، ونظيره هذه الآية قوله تعالى :﴿وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة﴾ ﴿البينة : ٤ ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ ٦ صـ ١٥﴾
وقال ابن عاشور :
وقوله :﴿بغياً بينهم﴾ مفعول لأجله لاختلفوا، والبغي : الظلم وأصل البغي في كلام العرب الطلب، ثم شاع في طلب ما للغير بدون حق فصار بمعنى الظلم معنى ثانياً وأطلق هنا على الحسد لأن الحسد ظلم.
والمعنى أن داعي الاختلاف هو التحاسد وقصد كل فريق تغليط الآخر فيحمل الشريعة غير محاملها ليفسد ما حملها عليه الآخر فيفسد كل فريق صواب غيره وأما خطؤه فأمره أظهر.
وقوله :﴿بينهم﴾ متعلق بقوله :﴿بغياً﴾ للتنصيص على أن البغي بمعنى الحسد، وأنه ظلم في نفس الأمة وليس ظلماً على عدوها. أ هـ ﴿التحرير والتنوير حـ ٢ صـ ٣١٠﴾
بحث نفيس
(حدوث الاختلاف بين أفراد الإنسان) ومن هنا يعلم أن قريحة الاستخدام في الإنسان بانضمامها إلى الاختلاف الضروري بين الأفراد من حيث الخلقة ومنطقة الحياة والعادات والأخلاق المستندة إلى ذلك، وإنتاج ذلك للاختلاف الضروري من حيث القوة والضعف يؤدي إلى الاختلاف والانحراف عن ما يقتضيه الاجتماع الصالح من العدل الاجتماعي، فيستفيد القوي من الضعيف أكثر مما يفيده، وينتفع الغالب من المغلوب من غير أن ينفعه، ويقابله الضعيف المغلوب مادام ضعيفا مغلوبا بالحيلة والمكيدة والخدعة، فإذا قوي وغلب قابل ظالمه بأشد الانتقام، فكان بروز الاختلاف مؤديا إلى الهرج والمرج، وداعيا إلى هلاك الإنسانية، وفناء الفطرة، وبطلان السعادة.


الصفحة التالية
Icon