قوله :﴿لاَ تُضَارَّ﴾ يحتمل وجهين كلاهما جائز في اللغة، وإنما احتمل الوجهين نظراً لحال الإدغام الواقع في تضار أحدهما : أن يكون أصله لا تضار بكسر الراء الأولى، وعلى هذا الوجه تكون المرأة هي الفاعلة للضرار والثاني : أن يكون أصله لا تضارر بفتح الراء الأولى فتكون المرأة هي المفعولة بها الضرار، وعلى الوجه الأول يكون المعنى : لا تفعل الأم الضرار بالأب بسبب إيصال الضرار إلى الولد، وذلك بأن تمتنع المرأة من إرضاعه مع أن الأب ما امتنع عليها في النفقة من الرزق والكسوة، فتلقى الولد عليه، وعلى الوجه الثاني معناه : لا تضارر، أي لا يفعل الأب الضرار بالأم فينزع الولد منها مع رغبتها في إمساكها وشدة محبتها له، وقوله :﴿وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ﴾ أي : ولا تفعل الأم الضرار بالأب بأن تلقي الولد عليه، والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد، وهو أن يغيظ أحدهما صاحبه بسبب الولد. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ٦ صـ ١٠٣ ـ ١٠٤﴾
قال ابن عاشور :
جملة ﴿لا تضار والدة بولدها﴾ اعتراض ثان، ولم تعطف على التي قبلها تنبيهاً على أنها مقصودة لذاتها، فإنها تشريع مستقل، وليس فيها معنى التعليل الذي في الجملة قبلها بل هي كالتفريع على جملة ﴿لا تكلف نفس إلا وسعها﴾ ؛ لأن إدخال الضر على أحد بسبب ما هو بضعة منه، يكاد يخرج عن طاقة الإنسان ؛ لأن الضرار تضيق عنه الطاقة، وكونه بسبب من يترقب منه أن يكون سبب نفع أشد ألماً على النفس، فكان ضره أشد.
ولذلك اختير لفظ الوالدة هنا دون الأم كما تقدم في قوله :﴿يرضعن أولادهن﴾ وكذلك القول في ﴿ولا مولود له بولده﴾ وهذا الحكم عام في جميع الأحوال من فراق أو دوام عصمة، فهو كالتذييل، وهو نهي لهما عن أن يكلف أحدهما الآخر ما هو فوق طاقته، ويستغل ما يعلمه من شفقة الآخر على ولده فيفترص ذلك لإحراجه، والإشفاق عليه.


الصفحة التالية
Icon