وقد كَرِه قوم الفِرار من الوَبَاء والأرض السقيمة ؛ رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : الفِرار من الوباء كالفرار من الزَّحْف. وقصة عمر في خروجه إلى الشام مع أبي عبيدة معروفة، وفيها : أنه رجع. وقال الطبريّ : في حديث سعد دلالةٌ على أن على المرء توقِّي المكاره قبل نزولها، وتجنُّب الأشياء المخوفة قبل هجومها، وأن عليه الصبر وترك الجزع بعد نزولها ؛ وذلك أنه عليه السلام نَهى مَن لم يكن في أرض الوَبَاء عن دخولها إذا وقع فيها، ونَهى مَن هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعه فيها فراراً منه ؛ فكذلك الواجب أن يكون حكم كل مُتّق من الأُمور غوائلها، سبيله في ذلك سبيل الطاعون. وهذا المعنى نظير قوله عليه السلام :" لا تتَمنَّوْا لقاء العدوّ وسَلُوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا ". قلت : وهذا هو الصحيح في الباب، وهو مقتضى قول الرسول عليه السلام، وعليه عمل أصحابه البررة الكرام ( رضي الله عنهم )، وقد قال عمر لأبي عبيدة محتجّاً عليه لما قال له : أفراراً من قدر الله! فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم، نَفِرّ من قدر الله إلى قدر الله. المعنى : أي لا محيص للإنسان عما قدّره الله له وعليه، لكن أمرنا الله تعالى بالتحرّز من المخاوف ( والمهلكات )، وباستفراغ الوسع في التَوقِّي من المكروهات. ثم قال له : أرأيت لو كانت لك إبْلٌ فهبطت وادياً له عُدْوَتان إحداهما خَصْبة والأُخرى جَدْبَة، أليس إن رَعَيْتَ الخَصْبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجَدْبَة رعيتها بقَدَر الله ( عز وجل ). فرجع عمر من موضعه ذلك إلى المدينة. قال الكيا الطبريّ : ولا نعلم خلافاً أن الكفار أو قُطّاع الطريق إذا قصدوا بلدة ضعيفة لا طاقة لأهلها بالقاصدين فلهم أن يتنحّوا من بين أيديهم، وإن كانت الآجال المقدّرة لا تزيد ولا تنقص. وقد قيل : إنما نُهي عن الفرار منه لأن الكائن بالموضع الذي الوباء فيه لعله قد أخذ بحظ منه،


الصفحة التالية
Icon