نفهم من ذلك أن النبوة كانت تشرف على نفاذ الأعمال ولا تباشر الأعمال، وأما الملك فهو الذي يباشر الأعمال. ولو كانت النبوة تباشر أعمالا لما طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكا. وسبب ذلك أن الذي يباشر عرضه للكراهية من كثير من الناس وعرضه أن يفشل في تصريف بعض الأمور، فبدلا من أن يوجهوا الفشل للقمة العليا، ينقلون ذلك لمن هو أقل وهو الملك. ولذلك طلبوا من النبي أن يأتي بملك يعيد تصريف الأمور فتكون النبوة مرجعا للحق، ولا تكون موطنا للوم في أي شيء. الحق سبحانه وتعالى يبلغنا أنه قال لنبي بني إسرائيل : أنتم الذين طلبتم القتال وأنتم الملأ ـ أي أشراف القوم ـ وأتيتم بالعلة الموجبة للقتال وهي أنكم أخرجتم من دياركم وأبنائكم أي بلغ بكم الهوان أنه لم تعد لكم ديار، وبلغ بكم الهوان أنه لم يعد لكم أبناء بعد أن أسرهم عدوكم. إذن علة طلب القتال موجودة، ومع ذلك قال لهم النبي :" هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا" لقد أوضح لهم نبيهم الشرط وقال : إنني أخاف أن آتي لكم بملك كي تقاتلوا في سبيل الله، وبعد ذلك يفرض الله عليكم القتال، وعندما نأتي للأمر الواقع لا نجد لكم عزما على القتال وتتخاذلون.
لكنهم قالوا :" وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا".. انظر إلى الدقة في قولهم :" في سبيل الله" وتعليق ذلك السبيل على أنهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم! لقد أرادوا أن يقلبوا المسألة وأن يقولوا : إن القتال في سبيل الله بعد أن عضتهم التجربة فيما يحبون من الديار والأبناء، إذن فالله هو الملجأ في كل أمر، وقبل سبحانه منهم قولهم، واعتبر قتالهم في سبيله. وكان إخراجهم من ديارهم أمرا معقولا، لكن كيف تخرجون من أبنائهم ؟ ربما كانوا قد تركوا أبناءهم للعدو، وربما أخذهم العدو أسرى. لكنهم هم الذين أخرجوا من ديارهم، وينطبق عليهم في علاقتهم بالأبناء قول الشاعر :


الصفحة التالية