﴿فمن شرب منه﴾ أي ملأ بطنه ﴿فليس مني﴾ أي كمن انغمس في الدنيا فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ﴿ومن لم يطعمه فإنه مني﴾ كمن عزف عنها بكليته ثم تلا هذه الدرجة العلية التي قد قدمت للعناية بها بما يليها من الاقتصاد فقال مستثنياً من ﴿فمن شرب﴾ :﴿إلا من اغترف﴾ أي تكلف الغرف ﴿غرفة بيده﴾ ففي قراءة فتح الغين إعراب عن معنى إفرادها أخذة ما أخذت من قليل أو كثير، وفي الضم إعلام بملئها، والغرف بالفتح الأخذ بكلية اليد، والغرفة الفعلة الواحدة منه، وبالضم اسم ما حوته الغرفة، فكان في المغترفين من استوفى الغرفة ومنهم من لم يستوف - قاله الحرالي وقال : فكان فيه إيذان بتصنيفهم ثلاثة أصناف : من لم يطعمه ألبتة وأولئك الذين ثبتوا وظنوا أنهم ملاقو الله، ومن شرب منهم وأولئك الذين افتتنوا وانقطعوا عن الجهاد في سبيل الله ومن اغترف غرفة وهم الذين ثبتوا وتزلزلوا حتى ثبتهم الذين لم يطعموا.
ولما كان قصص بني إسرائيل مثالاً لهذه الأمة كان مبتلى هذه الأمة بالنهر ابتلاهم بنهر الدنيا الجاري خلالها، فكانت جيوشهم بحكم هذا الإيحاء الاعتباري إذا مروا بنهر أموال الناس وبلادهم وزروعهم وأقطارهم في سبيلهم إلى غزوهم، فمن أصاب من أموال الناس ما لم ينله الإذن من الله انقطع عن ذلك الجيش ولو حضره.
فما كان في بني إسرائيل عياناً يكون وقوعه في هذه الأمة استبصاراً سترة لها وفضيحة لأولئك، ومن لم يصب منها شيئاً بتاً كان أهل ثبت ذلك الجيش الثابت المثبت، قيل لعلي رضي الله تعالى عنه : يا أمير المؤمنين! ما بال فرسك لم يكب بك قط ؟ قال : ما وطئت به زرع مسلم قط.
ومن أصاب ما له فيه ضرورة من منزل ينزله أو غلبة عادة تقع منه ويوده أن لا يقع فهؤلاء يقبلون التثبيت من الذين تورعوا كل الورع، فملاك هذا الدين الزهد في القلب والورع في التناول باليد، قال ﷺ :