وعليه فالعدول من التصريح بالاسم أو بالوصف المشهور به لقصد دفع الاحتشام عن المبلِّغ الذي هو المقصود من هذا الوصف وهو محمد ﷺ والعرب تعبّر بالبعض عن النفس كما في قول لبيد :
تَرّاكُ أمْكِنَةٍ إذَا لَمْ أرْضَها
أوْ يعْتَلِقْ بعضَ النّفوسسِ حِمَامُها...
أراد نفسه، وعن المخاطب كقولي أبي الطيّب :
إذا كان بعضُ النّاس سيفاً لِدَوْلَةٍ
ففي النّاسِ بُوقات لها وطُبُول...
والذي يعيِّن المراد في هذا كلّه هو القرينة كانطباق الخبر أو الوصف على واحد كقول طرفة :
إذا القَوْم قالوا مَنْ فتًى خِلْتُ أنّني
عُنِيْتُ فلم أكسل ولم أتَبَلَّدِ...
وقد جاء على نحو هذه الآية قوله تعالى :﴿ وما أرسلناك عليهم وكيلاً وربّك أعلم بمن في السموات والأرض ولقد فضّلنا بعض النبيين على بعض ﴾ [ الإسراء : ٥٤، ٥٥ ] عَقب قوله :﴿ وإذا قرآتَ القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستورا ﴾ إلى أن قال ﴿ وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ﴾ إلى قوله ﴿ ولقد فضّلنا بعض النبيين على بعض ﴾ [ الإسراء : ٤٥، ٥٥ ].
وهذا إعلام بأن بعض الرسل أفضل من بعض على وجه الإجمال وعدمِ تعيين الفاضل من المفضول : ذلك أنّ كل فريق اشتركوا في صفةِ خيرٍ لا يخلُونَ من أن يكون بعضهم أفضل من بعض بما للبعض من صفات كمال زائدة على الصفة المشتركة بينهم، وفي تمييز صفات التفاضل غموض، وتطرق لتوقّع الخطأ وعروض، وليس ذلك بسهلٍ على العقول المعرّضة للغفلة والخطأ.
فإذا كان التفضيل قد أنبأ به ربّ الجميع، ومَنْ إليه التفضيل، فليس من قدْر النّاس أن يتصدّوا لوضع الرسل في مراتبهم، وحسبهم الوقوف عندما ينبئهم الله في كتابه أو على لسان رسوله.
وهذا مورد الحديث الصحيح
" لا تُفضّلوا بين الأنبياء " يعني به النهى عن التفضيل التفصيلي، بخلاف التفضيل على سبيل الإجمال، كما نقول : الرسل أفضل من الأنبياء الذين ليسوا رسلاً.


الصفحة التالية
Icon