وكل أعمال الحق سبحانه وتعالى تصدر عن حكمة ؛ لأنه سبحانه ليس له هوى ولا شهوة، فكلنا جميعا بالنسبة إليه سواء. إذن هو سبحانه حين يعطي مزية أو يعطي خيرا أو يعطي فضلية، يكون القصد فيها إلى حكمة ما. وحينما قال الحق :" وإنك لمن المرسلين" جاء بعدها بالقول الكريم :" تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض" وأعطانا نماذج التفضيل فقال :" منهم من كلم الله". وساعة تسمع " منهم من كلم الله" يأتي في الذهن مباشرة موسى عليه السلام، وإلا فالله جل وعلا قد كلم الملائكة.
وبعد ذلك يقول الحق :" ورفع بعضهم درجات". ثم قال :" وآتينا عيسى ابن مريم البيانات" إنه سبحانه قد حدد أولا موسى عليه السلام بالوصف الغالب فقال :" كلم الله" وكذلك حدد سيدنا عيسى عليه السلام بأنه قد وهبه الآيات البينات. وبين موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام قال الحق " ورفع بعضهم درجات" والخطاب في الآيات لمحمد عليه الصلاة والسلام. إذن ففيه كلام عن الغير لمخاطب هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وساعة يأتي التشخيص بالاسم أو بالوصف الغالب، فقد حدد المراد بالقضية، ولكن ساعة أن يأتي بالوصف ويترك لفطنة السامع أن يرد الوصف إلى صاحبه فكأنه من المفهوم أنه لا ينطبق قوله :" ورفعنا بعضهم درجات" بحق إلا على محمد ﷺ وحده. وجاء بها سبحانه في الوسط بين موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام، مع أن الرسول ﷺ لم يأت في الوسط، وإنما جاء آخر الأنبياء، ولكنك تجد أن منهجه ﷺ هو الوسط. فاليهودية قد أسرفت في المادية بلا روحانية، والنصرانية قد أسرفت في الروحانية بلا مادية، والعالم يحتاج إلى وسطية بين المادية والروحية، فجاء محمد ﷺ، فكأن محمداً ﷺ قطب الميزان في قضية الوجود.