لباب التأويل، ج ١، ص : ٢٢٦
تكررت ألفاظه وقيل : إن المحكم ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان. والمتشابه ما احتاج إلى بيان وقيل : إن المحكم هو الأمر والنهي والوعد والوعيد والمتشابه هو القصص والأمثال. فإن قلت : إنما نزل القرآن لبيان الدين وإرشاد العباد وهدايتهم فما فائدة المتشابه وهلا كان كله محكما؟ قلت : ذكر العلماء عن هذا السؤال أجوبة أحدها. أن القرآن أنزل بألفاظ العرب ولغاتهم وكلام العرب على ضربين أحدهما : الإيجاز للاختصار والموجز الذي لا يخفى على سامعه لا يحتمل غير ظاهره، والإطالة لبيان المراد والتوكيد. الضرب الثاني : المجاز والكنايات والإشارات والتلويحات وإغماض بعض المعاني، وهذا الضرب هو المستحسن عند العرب والبديع في كلامهم فأنزل اللّه تعالى القرآن على هذين الضربين ليتحقق عجزهم عن الإتيان بمثله فكأنه قال : عارضوه بأي الضربين شئتم، ولو نزل كله محكما واضحا لقالوا : هلا أنزل بالضرب المستحسن عند الجواب الثاني أن اللّه تعالى أنزل المتشابه لفائدة عظيمة، وهي أن يشتغل أهل العلم والنظر بردهم المتشابه إلى المحكم فيطول
بذلك فكرهم ويتصل بالبحث عن معانيه اهتمامهم فيثابون على تعبهم كما أثبتوا على عباداتهم. ولو أنزل القرآن كله محكما لاستوى في معرفته العالم والجاهل ولم يفضل العالم على غيره ولماتت الخواطر وخمدت الفكرة، ومع الغموض تقع الحاجة إلى الفكرة والحيلة إلى استخراج المعاني. وقد قيل في عيب الغنى إنه يورث البلادة وفي فضيلة الفقر إنه يورث الفطنة. وقيل : إنه يبعث على الحيلة لأنه إذا احتاج احتال. الجواب الثالث : أن أهل كل علم يجعلون في علومهم معاني غامضة ومسائل دقيقة ليختبروا بذلك أذهان المتعلمين منهم على انتزاع الجواب لأنهم إذ قدروا على انتزاع المعاني الغامضة كانوا على الواضح أقدر، فلما كان ذلك حسنا عند العلماء جاز أن يكون ما أنزل اللّه تعالى من المتشابه على هذا النحو. الجواب الرابع : ان اللّه تعالى أنزل المتشابه في كتابه مختبرا به عباده ليقف المؤمن عنده ويرد علمه إلى عالمه فيعظم بذلك ثوابه، ويرتاب به المنافق فيداخله الزيغ فيستحق بذلك العقوبة كما ابتلى بنو إسرائيل بالنهر واللّه أعلم بمراده. وقوله تعالى : فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أي ميل عن الحق وقيل : الزيغ الشك واختلفوا في المعنى بهم والمشار إليهم فقيل هم وفد نجران الذين خاصموا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في عيسى عليه السلام وقالوا : ألست تزعم أن عيسى روح اللّه وكلمته؟ قال : بلى قالوا : حسبنا فأنزل اللّه هذه الآية. وقيل : هم اليهود لأنهم طلبوا معرفة مدة بقاء هذه الأمة واستخراجه بحساب الجميل من الحروف المقطعة في أوائل السور. وقيل : هم المنافقون وقيل : هم الخوارج وكان قتادة يقول : إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري من هم. وقيل هم جميع المبتدعة فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ يعني يحيلون المحكم على المتشابه والمتشابه على المحكم، ويقولون : ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا ثم نسخت.
وقيل كل من احتج لباطله بالمتشابه فهو المعنى بهذه الآية. (ق) عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت :«تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ- إلى- وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ فقال : إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم اللّه فاحذروهم» وقوله تعالى : ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ أي طلب الشرك والكفر. وقيل : طلب الشبهات واللبس ليضلوا بها جهالهم وقيل : طلب إفساد ذات البين وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ أي تفسيره. وأصل التأويل في اللغة : المرجع والمصير تقول : آل الأمر إلى كذا إذا رجع إليه وتسمى العاقبة تأويلا لأن الأمر يصير إليه. قال ابن عباس في قوله : وابتغاء تأويله أي طلب بقاء ملك محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وقيل : المراد بهم الكفار طلبوا متى يبعثون وكيف أحياهم بعد الموت وقيل هو طلب تفسير المتشابه وعلمه وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ يعني تأويل المتشابه وقيل : لا يعلم انقضاء ملك هذه الأمة إلّا اللّه تعالى لأن انقضاء ملكها مع قيام الساعة. ولا يعلم ذلك إلّا اللّه وقيل : يجوز أن يكون للقرآن تأويل استأثر اللّه بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه كعلم قيام الساعة ووقت طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم، وعلم الحروف المقطعة، وأشباه ذلك مما استأثر اللّه بعلمه فالإيمان به واجب وحقائق علومه مفوضة إلى اللّه تعالى، وهذا قول أكثر المفسرين وهو مذهب ابن


الصفحة التالية
Icon