لباب التأويل، ج ١، ص : ٢٢٧
مسعود وابن عباس في رواية عنه، وأبي بن كعب وعائشة وأكثر التابعين فعلى هذا القول تم الكلام عند قوله :
إِلَّا اللَّهُ فيوقف عليه ثم ابتدأ فقال عز من قائل وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أي الثابتون في العلم وهم الذين أتقنوا علمهم بحيث لا يدخل في علمهم شك يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ قال ابن عباس : سماهم راسخين في العلم بقولهم آمنا به فرسوخهم في العلم هو الإيمان به. وقال عمر بن عبد العزيز في هذه الآية انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا آمنا به كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا يعني المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ وما علمنا منه وما لم نعلم ونحن متعبدون في المتشابه بالإيمان به، ونكل معرفته إلى اللّه تعالى. وفي المحكم يجب علينا الإيمان به والعمل بمقتضاه. وروي عن ابن عباس أنه قال تفسير القرآن على أربعة أوجه فمنه تفسير لا يسع أحدا جهله، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها، وتفسير تعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلّا اللّه. وقيل : إن الواو في قوله والراسخون في العلم واو عطف يعني أن تأويل المتشابه يعلمه اللّه ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم يقولون آمنا به. روي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنه أنه كان يقول : أنا من الراسخين في العلم وعن مجاهد عنه أنا ممن يعلم تأويله. ووجه هذا القول أن اللّه تعالى أنزل كتابه لينتفع به عباده ولا يجوز أن يكون في القرآن شيء لا يعرفه أحد من الأمة وفي المراد بالراسخين في العلم هنا قولان أحدهما : أنهم مؤمنوا أهل الكتاب مثل عبد اللّه بن سلام وأصحابه دليله قوله تعالى : لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ. والقول الثاني : أن الراسخين هم العلماء العاملون بعلمهم.
سئل أنس بن مالك عن الراسخين في العلم فقال : العالم العامل بما علم المتبع له وقيل، الراسخ في العلم من وجد في علمه أربعة أشياء التقوى فيما بينه وبين اللّه تعالى، والتواضع فيما بينه وبين الناس، والزهد فيما بينه وبين الدنيا، والمجاهدة فيما بينه وبين النفس وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أي وما يتعظ بما في القرآن إلّا ذوو العقول وهذا ثناء من اللّه عز وجل على الذين قالوا آمنا به كل من عند ربنا. قوله عز وجل :
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨ الى ١١]
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١)
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا أي ويقول الراسخون في العلم : ربنا لا تزغ قلوبنا أي لا تملها عن الحق والهدى كما أزغت قلوب الذين في قلوبهم زيغ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا أي وفقتنا لدينك والإيمان بالمحكم والمتشابه من كتابك وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أي أعطنا توفيقا وتثبيتا للذي نحن عليه من الإيمان والهدى وقيل : هب لنا تجاوزا ومغفرة إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ الهبة العطية الخالية عن الأعواض والأغراض والوهاب في صفة اللّه تعالى أنه يعطي كل أحد على قدر استحقاقه. (م) عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول :«قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء» ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :«اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك» هذا من أحاديث الصفات وللعلماء فيه قولان أحدهما : الإيمان به وإمراره كما جاء، من غير تعرض لتأويل ولا تكييف ولا لمعرفة معناه بل نؤمن به كما جاء وأنه حق ونكل علمه إلى مراد اللّه ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم هذا القول هو مذهب أهل السنة من سلف الأمة وخلفها من أهل الحديث وغيرهم. والقول الثاني إنه يتأول بحسب ما يليق به وأن ظاهره غير مراد قال تعالى : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فعلى هذا المراد هو المجاز كما يقال فلان في قبضتي وفي كفي يريد أنه تحت قدرته وفي تصرفه إلّا أنه حال في كفه فمعنى الحديث أنه سبحانه وتعالى متصرف في قلوب عباده وغيرها كيف شاء لا يمتنع عليه منها شيء ولا يفوته ما أراد منها كما لا يمتنع على الإنسان ما بين إصبعيه فخاطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أصحابه بما يفهمونه ويعلمونه من أنفسهم، وإنما ثنى لفظ


الصفحة التالية
Icon