لباب التأويل، ج ١، ص : ٢٣
فكذلك هذه الحروف يجب الإيمان بها ولا يلزم البحث عنها. وقال آخرون من أهل العلم : هي معروفة المعاني.
ثم اختلفوا فيها فقيل كل حرف منها مفتاح اسم من أسماء اللّه تعالى فالألف مفتاح اسمه اللّه واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد وقيل الألف آلاء اللّه واللام لطفه والميم ملكه، ويؤيد هذا أن العرب تذكر حرفا من كلمة تريد كلها قال الراجز :
قلت لها قفي فقالت قاف لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف
قولها : قاف أي وقفت فاكتفت بجزء الكلمة عن كلها، والإيجاف الإسراع في السير قال ابن عباس : الم أنا اللّه أعلم. وقيل : هي أسماء اللّه مقطعة لو علم الناس تأليفها لعلموا اسم اللّه الأعظم ألا ترى أنك تقول الر وحم ون فيكون مجموعها الرحمن وكذلك سائرها، ولكن لم يتهيأ تأليفها جميعا وقيل أسماء السور وبه قال جماعة من المحققين وقال ابن عباس : هي أقسام فقيل أقسم اللّه بهذه الحروف لشرفها وفضلها لأنها مباني كتبه المنزلة وأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وإنما اقتصر على بعضها وإن كان المراد كلها فهو كما تقول قرأت الحمد للّه، وتريد أنك قرأت السورة بكمالها فكأنه تعالى أقسم بهذه الحروف أو هذا الكتاب هو الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ وقيل إن اللّه تعالى لما تحداهم بقوله : فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وفي آية بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فعجزوا عنه أنزل هذه الأحرف ومعناه أن القرآن ليس هو إلّا من هذه الأحرف وأنتم قادرون عليها فكان يجب أن تأتوا بمثله فلما عجزتم عنه دل ذلك على أنه من عند اللّه لا من عند البشر. وقيل : إنهم لما أعرضوا عن سماع القرآن وأراد اللّه صلاح بعضهم أنزل هذه الأحرف فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين اسمعوا إلى ما يجيء به محمد فإذا أصغوا إليه وسمعوه رسخ في قلوبهم، فكان ذلك سببا لإيمانهم، وقيل : إن اللّه تعالى غير عقول الخلق في ابتداء خطابه ليعلموا أن لا سبيل لأحد إلى معرفة خطابه إلّا باعترافهم بالعجز عن معرفة كنه حقيقة خطابه. واعلم أن مجموع الأحرف المنزلة في أوائل السور أربعة عشر حرفا في تسع وعشرين سورة وهي الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون وهي نصف حروف المعجم، وسيأتي الكلام على باقيها في مواضعها إن شاء اللّه تعالى.
وقوله تعالى : ذلِكَ الْكِتابُ أي هذا الكتاب هو القرآن وقيل فيه إضمار، والمعنى هذا الكتاب الذي وعدتك به وكان اللّه قد وعد نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الرد، فلما أنزل القرآن قال هذا ذلك الكتاب الذي وعدتك به وقيل إن اللّه وعد بني إسرائيل أن ينزل كتابا ويرسل رسولا من ولد إسماعيل. فلما هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى المدينة وبها من اليهود خلق كثير أنزل اللّه تعالى هذه الآية الم ذلِكَ الْكِتابُ أي هذا الكتاب الذي وعدت به على لسان موسى أن أنزله على النبي الذي هو من ولد إسماعيل والكتاب مصدر بمعنى المكتوب وأصله الضم والجمع ومنه يقال للجند كتيبة لاجتماعها فسمي الكتاب كتابا لأنه يجمع الحروف بعضها إلى بعض والكتاب اسم من أسماء القرآن لا رَيْبَ فِيهِ أي لا شك فيه أنه من عند اللّه وأنه الحق والصدق، وقيل : هو خبر بمعنى النهي أي لا ترتابوا فيه. فإن قلت قد ارتاب به قوم فما معنى لا ريب فيه.
قلت معناه أنه في نفسه حق وصدق فمن حقق النظر عرف حقيقة ذلك هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الهدى عبارة عن الدلالة وقيل دلالة بلطف وقيل الهداية الإرشاد والمعنى هو هدى للمتقين وقيل هو هاد لا ريب في هدايته والمتقي اسم فاعل من وقاه فاتقى والتقوى جعل النفس في وقاية مما يخاف وقيل التقوى في عرف الشرع حفظ النفس مما يؤثم وذلك بترك المحظور وبعض المباحات قال ابن عباس : المتقي من يتقي الشرك والكبائر والفواحش، وهو مأخوذ من الاتقاء وأصله الحجز بين الشيئين، يقال : اتقى بترسه إذا جعله حاجزا بينه وبين ما يقصده وفي الحديث «كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم» معناه أنا كنا إذا اشتد الحرب جعلنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حاجزا بيننا وبين العدو فكأن المتقي يجعل امتثال أوامر اللّه واجتناب نواهيه حاجزا بينه وبين النار وقيل المتقي هو من لا يرى نفسه خيرا من أحد. وقيل : التقوى ترك ما حرم اللّه وأداء ما افترض. وقيل