لباب التأويل، ج ١، ص : ٢٤
التقوى ترك الإصرار على المعصية وترك الاغترار بالطاعة. وقيل : التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك وقيل :
التقوى الاقتداء بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه وفي الحديث «جماع التقوى في قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الآية» وقيل المتقي هو الذي يترك ما لا بأس به حذرا مما به بأس، وخص المتقين بالذكر تشريفا لهم، لأن مقام التقوى مقام شريف عزيز، لأنهم هم المنتفعون بالهداية، ولو لم يكن للمتقين فضل إلّا قوله تعالى هدى للمتقين لكناهم. فإن قلت كيف قال هدى للمتقين والمتقون هم المهتدون. قلت هو كقولك للعزيز الكريم أعزك اللّه وأكرمك تريد طلب الزيادة له إلى ما هو ثابت فيه كقوله تعالى : اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أي يصدقون بالغيب، وأصل الإيمان في اللغة التصديق قال اللّه تعالى : وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي بمصدق فإذا فسر الإيمان بهذا فإنه لا يزيد ولا ينقص لأن التصديق لا يتجزأ حتى يتصور كما له مرة ونقصانه أخرى. والإيمان في لسان الشرع عبارة عن التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان، وإذا فسر بهذا فإنه يزيد وينقص وهو مذهب أهل السنة من أهل الحديث وغيرهم، وفائدة هذا الخلاف تظهر في مسألة وهي أن المصدق بقلبه إذا لم يجمع إلى تصديقه العمل بموجب الإيمان من الصلاة والزكاة والصوم والحج ونحو ذلك من أركان الدين هل يسمى مؤمنا أم لا؟ فيه خلاف، والمختار عند أهل السنة أنه لا يسمى مؤمنا لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم :«لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» فنفى عنه اسم الإيمان أو كمال الإيمان وأنكر أكثر المتكلمين زيادة الإيمان ونقصانه، وقالوا : متى قبل الزيادة والنقص كان ذلك شكا وكفرا. وقال المحققون من متكلمي أهل السنة : إن نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة الأعمال ونقصانها وبهذا أمكن الجمع بين ظواهر نصوص الكتاب والسنة التي جاءت بزيادة الإيمان ونقصانه وبين أصله من اللغة.
وقال بعض المحققين :
إن نفس التصديق قد يزيد وينقص بكثرة النظر في الأدلة والبراهين وقلة إمعان النظر في ذلك ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى وأثبت من إيمان غيرهم لأنهم لا تعتريهم شبهة في إيمانهم ولا تزلزل، وما غيرهم من آحاد الناس فليس كذلك، إذ لا يشك عاقل أن نفس تصديق أبي بكر رضي اللّه عنه لا يساويه تصديق غيره من آحاد الأمة وقيل إنما سمي الإقرار والعمل إيمانا لوجه المناسبة لأنه من شرائعه، والدليل على أن الأعمال من الإيمان ما روي عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :«الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلّا اللّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» أخرجاه في الصحيحين. البضع بكسر الباء ما بين الثلاثة إلى العشرة والشعبة القطعة من الشيء وإماطة الأذى عن الطريق وهو عزل الحجر والشوك ونحو ذلك عنه. والحياء بالمد وهو انقباض النفس عن فعل القبيح وإنما جعل من الإيمان وهو اكتساب لأن المستحيي ينزجر باستحيائه عن المعاصي فصار من الإيمان، وقيل الإيمان مأخوذ من الأمن فسمي المؤمن مؤمنا لأنه يؤمن نفسه من عذاب اللّه.
والإسلام هو الانقياد والخضوع فكل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيمانا إن لم يكن معه تصديق وذلك أن الرجل قد يكون مسلما في الظاهر غير مصدق في الباطن (ق) عن أبي هريرة قال : كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوما بارزا للناس فأتاه رجل فقال يا رسول اللّه ما الإيمان «قال أن تؤمن باللّه وملائكته وكتبه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر» قال يا رسول اللّه ما الإسلام؟ قال :«أن تعبد اللّه ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان». قال : يا رسول اللّه ما الإحسان؟ قال «أن تعبد اللّه كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك». قال : يا رسول اللّه متى الساعة؟ قال :«ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، ولكن سأحدثك عن أشراطها. إذا ولدت الأمة ربها فذاك من أشراطها، وإذا كانت الحفاة العراة رؤوس الناس فذاك من أشراطها، وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان فذاك من أشراطها، وخمس لا يعلمهن إلّا اللّه» ثم تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ إلى قوله : عَلِيمٌ خَبِيرٌ قال ثم أدبر الرجل فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :«ردوا عليّ هذا الرجل» فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :«هذا جبريل جاء ليعلم


الصفحة التالية
Icon