لباب التأويل، ج ١، ص : ٢٣٤
قبل أن خلق الخلق حين كان ولم تكن سماء ولا أرض ولا بر ولا بحر، فقال تعالى : شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ أي وشهد الملائكة فمعنى شهادة اللّه تعالى الإخبار والإعلام ومعنى شهادة الملائكة والمؤمنين الإقرار والاعتراف بأنه لا إله إلّا هو، ولما كان كل واحد من هذين الأمرين يسمى شهادة حسن إطلاق لفظ الشهادة عليهما وَأُولُوا الْعِلْمِ أي وشهد أولوا العلم بأنه لا إله إلا هو، واختلفوا في أولي العلم فقيل : هم الأنبياء عليهم السلام لأنهم أعلم الخلق باللّه تعالى وقيل : هم علماء أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من المهاجرين والأنصار وقيل : هم علماء مؤمني أهل الكتاب مثل عبد اللّه بن سلام وأصحابه، وقيل : هم علماء جميع المؤمنين قائِماً بِالْقِسْطِ أي بالعدل نصب على الحال والقطع أو المدح ومعناه أنه تعالى قائم بتدبير خلقه كما يقال :
فلان قائم بأمر فلان يعني أنه مدبر له ومتعهد لأسبابه، وفلان قائم بحق فلان، أي أنه مجاز له فاللّه مدبر أمر خلقه وقائم بأرزاقهم ومجاز لهم بأعمالهم لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إنما كرره للتأكيد، وقيل إن الأول وصف وتوحيد والثاني رسم وتعليم أي قولوا لا إله إلّا هو. وقيل فائدة تكرارها الإعلام بأن هذه الكلمة أعظم الكلام وأشرفه فيه حث للعباد على تكريرها والاشتغال بها، فإنه من اشتغل بها فقد اشتغل بأفضل العبادات الْعَزِيزُ أي الغالب الذي لا يقهر الْحَكِيمُ يعني في جميع أفعاله إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ يعني أن الدين المرضي عند اللّه هو الإسلام كما قال تعالى : وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً وفيه رد على اليهود والنصارى وذلك لما ادعت اليهود أنه لا دين أفضل من اليهودية، وادعت النصارى أنه لا دين أفضل من النصرانية رد اللّه عليهم ذلك فقال : إن الدين عند اللّه الإسلام. وقرئ أن الدين بفتح الهمزة ردا على أن الأولى والمعنى شهد اللّه أنه لا إله إلّا هو، وشهد أن الدين عند اللّه الإسلام، وأصل الدين في اللغة الجزاء. يقال كما تدين تدان ثم صار اسما للملة والشريعة، ومعناه الانقياد للطاعة والشريعة، قال الزجاج الدين اسم لجميع ما تعبد اللّه به خلقه وأمرهم بالإقامة عليه، والإسلام هو الدخول في السلم وهو الاستسلام والانقياد والدخول في الطاعة.
وروى البغوي بسند الثعلبي عن غالب القطان قال : أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريبا من الأعمش فكنت أختلف إليه فلما كان ذات ليلة أردت أن أنحدر إلى البصرة قام من الليل يتهجد فمر بهذه الآية شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قال الأعمش : وأنا أشهد بما شهد اللّه به وأستودع اللّه هذه الشهادة وهي لي عند اللّه وديعة إن الدين عند اللّه الإسلام قالها مرارا. قلت : سمع فيها شيئا فصليت الصبح معه وودعته ثم قلت له : إني سمعتك ترددهما فما بلغك فيها؟ قال : واللّه لا أحدثك فيها إلى سنة فكتبت على بابه ذلك اليوم وأقمت سنة، فلما مضت السنة قلت : يا أبا محمد قد مضت السنة فقال : حدثني أبو وائل عن عبد اللّه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : يجاء بصاحبها يوم القيامة.
فيقول اللّه عز وجل : إن لعبدي هذا عندي عهدا وأنا أحق من وفي بالعهد أدخلوا عبدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم فهم الذين ذكرهم اللّه في كتابه وأنزل الآية فيهم» فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ إنما دخلت الفاء في قوله فبشرهم مع أنه خبر إن لأنه في معنى الجزاء والتقدير من كفر فبشرهم بعذاب أليم يوم القيامة، وهذا محمول على الاستعارة وهو أن إنذار الكفار بالعذاب قام مقام بشرى المحسنين بالثواب، وفي هذه الآية توبيخ لليهود الذين كانوا في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وإن كان أسلافهم الذين قتلوا الأنبياء لأنهم رضوا بفعلهم أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أي بطلت أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وبطلان العمل هو أن لا يقبل في الدنيا ولا يجازى عليه في الآخرة وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يعني يمنعونهم من العذاب. قوله عز وجل : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ أنزلت في اليهود يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ يعني القرآن، وذلك أن اليهود دعوا إلى حكم القرآن فأعرضوا عنه. قال ابن عباس : إن اللّه جعل القرآن حكما فيما بينهم وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فحكم القرآن على اليهود والنصارى أنهم على


الصفحة التالية
Icon