لباب التأويل، ج ١، ص : ٤٣١
[سورة النساء (٤) : آية ١٢٤]
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ قال مسروق لما نزلت من يعمل سوءا يجز به قال أهل الكتاب نحن وأنتم سواء فنزلت هذه الآية قال المفسرون بيّن اللّه تعالى بهذه الآية فضيلة المؤمنين على غيرهم ولفظة من في قوله من الصالحات للتبعيض، لأن أحدا لا يقدر أن يستوعب جميع الصالحات بالعمل فإذا عمل بعضها استحق الثواب فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً النقير نقرة في ظهر النواة ومنها تنبت النخلة قال ابن عباس يريد لا ينقصون قدر نقرة النواة وهذا على سبيل المبالغة في نفي الظلم ووعد بتوفية جزاء أعمالهم من غير نقصان قوله عز وجل :
[سورة النساء (٤) : آية ١٢٥]
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ لما بيّن اللّه تعالى أن الجنة لمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن شرح الإيمان وبين فضله فقال تعالى : وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً يعني ومن أحكم دينا والدين هو المشتمل على كمال العبودية والخضوع والانقياد للّه عز وجل وهو الذي كان عليه إبراهيم صلّى اللّه عليه وسلّم. واعلم أن دين الإسلام مبني على أمرين : أحدهما الاعتقاد وإليه الإشارة بقوله : أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ يعني انقاد للّه وخضع له في سره وعلانيته وقيل معناه أخلص طاعته للّه وقيل فوض أمره إلى اللّه. الأمر الثاني من مباني الإسلام العمل وإليه الإشارة بقوله :
وَهُوَ مُحْسِنٌ يعني في عمله للّه فيدخل فيه فعل الحسنات والمفروضات والطاعات وترك السيئات وقال ابن عباس في تفسير قوله :«و هو محسن» يريد وهو موحد للّه عز وجل لا يشرك به شيئا قال العلماء وإنما صار دين الإسلام أحسن الأديان لأن فيه طاعة اللّه ورضاه وهما أحسن الأعمال. وإنما خص الوجه بالذكر في قوله : أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ لأنه أشرف الأعضاء فإذا انقاد الوجه للّه وخضع له فقد انقاد للّه جميع الأعضاء لأنها تابعة له وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ يعني دين إبراهيم عليه السلام حَنِيفاً يعني مسلما مخلصا والحنيف المائل ومعناه المائل عن الأديان كلها إلى الإسلام لأن كل ما سواه من الأديان باطل وحنيفا يجوز أن يكون حالا لإبراهيم ويجوز أن يكون حالا للمتبع كما تقول رأيته راكبا. قال ابن عباس ومن دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى الكعبة والطواف ومناسك الحج والختان هو نحو ذلك. فإن قلت ظاهر هذه الآية يقتضي أن شرع محمد صلّى اللّه عليه وسلّم هو نفس شرع إبراهيم عليه السلام وعلى هذا لم يكن لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم شرع يستقل به وليس الأمر كذلك فما الجواب؟ قلت إن شرع إبراهيم وملته داخلان في شرع محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وملته مع زيادات كثيرة حسنة خص اللّه بها محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم فمن اتبع ملة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فقد اتبع ملة إبراهيم لأنها داخلة في ملة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وشرع إبراهيم داخل في شرع محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وإنما قال تعالى :
وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ لأن إبراهيم صلّى اللّه عليه وسلّم كان يدعو إلى توحيد اللّه وعبادته ولهذا خصه بالذكر لأنه كان مقبولا عند جميع الأمم فإن العرب كانوا يفتخرون بالانتساب إليه وكذا اليهود والنصارى. فإذا ثبت هذا وأن شرعه كان مقبولا عند الأمم وأن شرع محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وملته هو شرع إبراهيم وملته لزم الخلق الدخول في دين محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وقبول شرعه وملته. وقوله تعالى : وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا يعني صفيا والخلة صفاء المودة وقيل الخلة الافتقار والانقطاع فخليل اللّه المنقطع إليه وسمي إبراهيم خليلا لأنه انقطع إلى اللّه في كل حال. وقيل الخلة الاختصاص والاصطفاء وسمي إبراهيم خليلا لأنه والى في اللّه وعادى في اللّه وقيل لأنه تخلّق بأخلاق حسنة وخلال كريمة وقيل الخليل المحب الذي ليس في محبته خلل وسمي إبراهيم خليل اللّه لأنه أحبه محبة كاملة ليس فيها نقص ولا خلل وأنشد في معنى الخلة التي هي بمعنى المحبة :