لباب التأويل، ج ١، ص : ٤٥٣
وملكه فكيف يكون بعض ملكه جزء منه؟ لأن التجزئة إنما تصح في الأجسام واللّه تعالى منزه عن صفات الأعراض والأجسام وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا يعني أنه تعالى كاف في تدبير جميع خلقه فلا حاجة له إلى غيره، وكل الخلق محتاجون إليه وفقراء إليه وهو غني عنهم.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٧٢ الى ١٧٥]
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥)
وقوله تعالى : نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
وذلك أن وفد نجران قالوا يا محمد إنك تعيب صاحبنا فتقول إنه عبد اللّه فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إنه ليس بعار على عيسى أن يكون عبد اللّه فنزلت لن يستنكف المسيح يعني لن يأنف ولن يتعظم والاستنكاف الاستكبار مع الأنفة يقال نكفت من كذا واستنكفت منه أي أنفت منه وأصله من نكفت الشيء نحيته ونكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك من خدك والمعنى لن ينقبض ولن يمتنع ولن يأنف المسيح أن يكون عبد اللّه لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
يعني ولن يستنكف الملائكة المقربون وهم حملة العرش والكروبيون وأفاضل الملائكة مثل : جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل أن يكونوا عبيد اللّه لأنهم في ملكه ومن جملة خلقه وقيل لما ادّعت النصارى في عيسى أنه ابن اللّه وذلك لما رأوا منه خوارق العادات من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك من المعجزات، أجاب اللّه تعالى عن هذه الشبهات التي وقعت للنصارى بأن عيسى من شرف قدره وكرامته لن يستنكف أن يكون عبدا للّه. وكذلك الملائكة المقربون فإنهم مع كرامتهم وعلو منزلتهم لن يستنكفوا أن يكونوا عبيدا للّه وقد يستدل بهذه الآية من يقول بتفضيل الملائكة على البشر ووجه الدليل أن اللّه تعالى ارتقى من عيسى إلى الملائكة ولا يرتقي إلّا من الأدنى إلى الأعلى ولا حجة لهم فيه والجواب عنه أن اللّه تعالى لم يقل ذلك رفعا لمقامهم على مقام البشر بل قاله ردا على من يقول إن الملائكة بنات اللّه أو أنهم آلهة كما رد على النصارى قولهم إن المسيح ابن اللّه وقاله أيضا ردا على النصارى فإنهم يقولون بتفضيل الملائكة يعني كما أن المسيح عبد اللّه فكذلك الملائكة عبيد اللّه. وقوله تعالى : مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ
يعني ومن يتعظم عن عبادة اللّه ويأنف من التذلل للّه والخضوع والطاعات من جميع خلقه سَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً
يعني فسيبعثهم يوم القيامة لموعدهم الذي وعدهم حيث لا يملكون لأنفسهم شيئا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ يعني يوفيهم جزاء أعمالهم الصالحة وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ يعني ويزيدهم على ما أعطاهم من الثواب على أعمالهم الصالحة من التضعيف على ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا يعني الذين أنفوا وتكبروا عن عبادة اللّه تعالى فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني من سوى اللّه لأنفسهم وَلِيًّا يعني ينجيهم من عذابه وَلا نَصِيراً يعني ولا ناصرا ينصرهم منه، ويدفع عنهم عقوبته بقي في الآية سؤال وهو أن التفصيل غير مطابق للمفصل لأن التفصيل اشتمل على ذكر فريقين : وهو قوله :«فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فيوفيهم أجورهم وأما الذين استنكفوا واستكبروا» والمفصل اشتمل على ذكر فريق واحد وهو قوله :«و من يستنكف عن عبادته ويستكبر» والجواب أنه لا إشكال فيه فهو مثل قولك جمع الإمام الخوارج فمن لم يخرج عليه كساه وحمله ومن خرج عليه نكل به، وصحة ذلك لوجهين : أحدهما أنه حذف ذكر أحد الفريقين لدلالة التفصيل عليه لأن ذكر أحدهما يدل على ذكر


الصفحة التالية
Icon