لباب التأويل، ج ١، ص : ٥٧
فكانوا إذا سألهم سفلتهم عن ذلك قرءوا عليهم ما كتبوا ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني هذه الصفة التي كتبوها. فإذا نظروا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وإلى تلك وجدوه مخالفا لها فيكذبونه ويقولون إنه ليس به لِيَشْتَرُوا بِهِ أي بما كتبوا ثَمَناً قَلِيلًا أي المآكل والرشا التي كانوا يأخذونها من سفلتهم، قال اللّه تعالى : فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ. قوله عز وجل :
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٠ الى ٨١]
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١)
وَقالُوا أي اليهود لَنْ تَمَسَّنَا أي لن تصيبنا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً أي قدرا مقدرا ثم يزول عنا العذاب قال ابن عباس : قالت اليهود : مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنا نعذب بكل ألف سنة يوما ثم ينقطع عنا العذاب بعد سبعة أيام وقيل : إنهم عنوا بالأيام الأربعين يوما التي عبدوا فيها العجل وقيل : إن اليهود زعموا أن اللّه تعالى عتب عليهم في أمر فأقسم ليعذبنهم أربعين يوما تحلة القسم فقال اللّه ردا عليهم وتكذيبا لهم قُلْ أي يا محمد لليهود أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً أي موثقا أن لا يعذبكم إلا هذه المدة فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أي وعده أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ بَلى إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله : لن تمسنا النار والمعنى بلى تمسكم النار أبدا مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً السيئة اسم يتناول جميع المعاصي كبيرة كانت أو صغيرة، والسيئة هنا الشرك في قول ابن عباس وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ أي أحدقت به من جميع جوانبه قال ابن عباس : هي الشرك يموت عليه صاحبه وقيل : أحاطت به أي أهلكته خطيئته وأحبطت ثواب طاعته فعلى مذهب أهل السنة يتعين تفسير السيئة والخطيئة في هذه الآية، بالكفر والشرك لقوله تعالى : فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فإن الخلود في النار هو للكفار والمشركين.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٢ الى ٨٤]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. فإن قلت : العمل الصالح خارج عن اسم الإيمان لأنه تعالى قال :
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فلو دل الإيمان على العمل الصالح لكان ذكر العمل الصالح بعد الإيمان تكرارا. قلت : أجاب بعضهم بأن الإيمان وإن كان يدخل فيه جميع الأعمال الصالحة إلا أن قوله : آمن لا يفيد إلا أنه فعل فعلا واحدا من أفعال الإيمان فإذا حسن أن يقول : والذين آمنوا وعملوا الصالحات وقيل : إن قوله آمنوا يفيد الماضي وعملوا الصالحات يفيد المستقبل فكأنه تعالى قال آمنوا أولا ثم داوموا عليه آخرا ويدخل فيه جميع الأعمال الصالحات أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ قوله عز وجل : وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ يعني في التوراة. والميثاق العهد الشديد لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ أي أمر اللّه تعالى بعبادته فيدخل تحته النهي عن عبادة غيره لأن اللّه تعالى هو المستحق للعبادة لا غيره وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي برا بهما ورحمة لهما ونزولا عند أمرهما فيما لا يخالف أمر اللّه تعالى ويوصل إليهما ما يحتاجان إليه، ولا يؤذيهما البتة وإن كانا كافرين بل يجب عليه الإحسان إليهما ومن الإحسان إليهما أن يدعوهما إلى الإيمان بالرفق واللين، وكذا إن كانا فاسقين يأمرهما


الصفحة التالية
Icon