لباب التأويل، ج ١، ص : ٥٨
بالمعروف بالرفق، واللين من غير عنف وإنما عطف بر الوالدين على الأمر بعبادته، لأن شكر المنعم واجب، وللّه على عبده أعظم النعم لأنه هو الذي خلقه وأوجده بعد العدم فيجب تقديم شكره على شكر، غيره ثم إن للوالدين على الولد نعمة عظيمة، لأنهما السبب في كون الولد ووجوده ثم إن لهما عليه حق التربية أيضا فيجب شكرهما ثانيا وَذِي الْقُرْبى أي القرابة لأن حق القرابة تابع لحق الوالدين والإحسان إليهم : إنما هو بواسطة الوالدين فلهذا حسن عطف القرابة على الوالدين وَالْيَتامى جمع يتيم وهو الذي مات أبوه وهو طفل صغير، فإذا بلغ الحلم زال عنه اليتم وتجب رعاية حقوق اليتيم لثلاثة أمور : لصغره ويتمه ولخلوه، عمن يقوم بمصلحته إذ لا يقدر هو أن ينتفع بنفسه، ولا يقوم بحوائجه وَالْمَساكِينِ جمع مسكين وسيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى وإنما تأخرت درجة المساكين عن اليتامى، لأنه قد يمكن أن ينتفع بنفسه وينفع غيره بالخدمة وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً فيه وجهان : أحدهما : أنه خطاب للحاضرين من اليهود في زمن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فلهذا عدل من الغيبة إلى الحضور، والمعنى قولوا : حقا وصدقا في شأن محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فمن سألكم عنه فأصدقوه وبينوا صفته ولا تكتموها قاله ابن عباس.
الوجه الثاني إن المخاطبين به هم الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام، وأخذ عليهم الميثاق وإنما عدل من الغيبة إلى الحضور على طريق الالتفات كقوله : حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ وقيل : فيه حذف تقديره وقلنا لهم : في الميثاق وقولوا : للناس حسنا ومعناه مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر وقيل هو اللين في القول والعشرة وحسن الخلق وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ولما أمرهم اللّه تعالى بهذه التكاليف الثمانية لتكون لهم المنزلة عنده بما التزموا به أخبر عنهم أنهم ما وفوا بذلك بقوله تعالى : ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن العهد إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ يعني من الذين آمنوا كعبد اللّه بن سلام وأصحابه فإنهم وفوا بالعهد وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ أي كإعراض آبائكم. قوله عز وجل : وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ قيل : هو خطاب لمن كان في زمن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من اليهود وقيل : هو خطاب لآبائهم وفيه تقريع لهم لا تَسْفِكُونَ أي لا تريقون دِماءَكُمْ أي لا يسفك بعضكم دم بعض وقيل : معناه لا تسفكوا دماء غيركم فيسفك دماءكم فكأنكم أنتم سفكتم دماء أنفسكم وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أي لا يخرج بعضكم بعضا من داره، وقيل : لا تفعلوا شيئا فتخرجوا بسببه من دياركم ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ أي بهذا العهد أنه حق وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ يعني أنتم يا معشر اليهود اليوم تشهدون على ذلك.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٥]
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥)
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ يعني يا هؤلاء اليهود تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ أي يقتل بعضكم بعضا وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ أي يخرج بعضكم بعضا من ديارهم تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ أي تتعاونون عليهم بالمعصية والظلم وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى جمع أسير تُفادُوهُمْ أي بالمال وهو استنقاذهم بالشراء، وقرئ تفادوهم أي تبادلوهم وهو مفاداة الأسير بالأسير، ومعنى الآية أن اللّه تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضا. ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم وأيما عبد أو أمة من بني إسرائيل وجدتموه فاشتروه بما قام من ثمنه، وأعتقوه وكانت قريظة حلفاء الأوس والنضير حلفاء الخزرج، وكان بين الأوس والخزرج حروب فكانت بنو النضير تقاتل مع حلفائهم وبنو قريظة تقاتل مع حلفائهم فإذا غلب أحد الفريقين أخرجوهم من ديارهم وخربوها. وكان إذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له مالا يفدونه به فعيرتهم العرب. وقالوا : كيف