لباب التأويل، ج ١، ص : ٦٥
للأمر والنهي معنى مفهوم، والسحر مما نهى عباده من بني آدم عنه فغير منكر أن يكون اللّه تعالى علمه الملكين اللذين سماهما في تنزيله وجعلهما فتنة لعباده من بني آدم كما أخبر عنهما أنهم يقولان : لمن جاء يتعلم ذلك منهما : إنما نحن فتنة فلا تكفر ليختبر بهما عباده الذين نهاهم عن السحر وعن التفريق بين المرء وزوجه فيتمحض المؤمن بتركه التعليم منهما، ويجري للكافر بتعلمه الكفر والسحر منهما ويكون الملكان في تعليمهما ما علما من ذلك مطيعين للّه تعالى إذ كان عن إذن اللّه تعالى، لهما بتعليم ذلك وغير ضارهما سحر من سحر ممن تعلم ذلك منهما ما بعد نهيهما إياه عنه بقولهما إنما نحن فتنة فلا تكفر، إذ كانا قد أديا ما أمرا به. وقال غيره إنهما لا يتعمدان ذلك بل يصفان السحر ويذكران بطلانه ويأمران باجتنابه فالشقي من ترك نصحهما، وتعلم السحر من وصفهما، والسعيد من قبل نصحهما وترك تعلم السحر منهما. وقيل : إن اللّه تعالى امتحن الناس بهما في ذلك الزمان فالشقي من تعلم السحر منهما فيكفر به والسعيد من تركه فيبقى على إيمانه، وللّه تعالى أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن بني إسرائيل بنهر طالوت بقوله :«فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني» بِبابِلَ قيل : هي بابل العراق بأرض الكوفة سميت بذلك لتبلبل الألسنة بها عند سقوط صرح نمرود. وقيل :
إنها بابل نهاوند والأول أصح وأشهر هارُوتَ وَمارُوتَ اسمان سريانيان. وقصة الآية على ما ذكره ابن عباس وغيره. قالوا : إن الملائكة لما رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة في زمن إدريس عليه السلام عيروهم. وقالوا : هؤلاء الذين جعلتهم في الأرض واخترتهم وهم يعصونك فقال اللّه تعالى : لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لركبتم مثل ما ركبوا قالوا : سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نعصيك قال اللّه تعالى : فاختاروا ملكين من خياركم أهبطهما إلى الأرض فاختاروا هاروت وماروت، وكانا من أصلح الملائكة وأعبدهم وكان اسم هاروت عزا وماروت عزايا، فغير اسمهما لما قارفا الذنب وركب اللّه فيهما الشهوة وأهبطهما إلى الأرض وأمرهما أن يحكما بين الناس بالحق ونهاهما عن الشرك، والقتل بغير الحق والزنا وشرب الخمر، فكانا يقضيان بين الناس يومهما فإذا أمسيا ذكرا اسم اللّه الأعظم وصعدا إلى السماء فما مر عليهما شهر حتى افتتنا. وقيل : بل افتتنا في أول يوم وذلك أنه اختصم إليهما امرأة يقال لها : الزهرة وكانت من أجمل أهل فارس. وقيل : كانت ملكة فلما رأياها أخذت بقلوبهما فقال أحدهما لصاحبه هل سقط في نفسك مثل الذي سقط في نفسي. قال : نعم فراوداها عن نفسها فأبت وانصرفت. ثم عادت في اليوم الثاني ففعلا مثل ذلك فأبت وقالت : لا إلّا أن تعبدا هذا الصنم وتقتلا النفس وتشربا الخمر فقالا : لا سبيل إلى هذه الأشياء فإن اللّه تعالى قد نهانا عنها. فانصرفت ثم عادت في اليوم الثالث، ومعها قدح خمر وفي أنفسهما من الميل إليها ما فيها فراوداها عن نفسها فعرضت عليهما ما قالت بالأمس فقالا : الصلاة لغير اللّه عظيم وقتل النفس عظيم وأهون الثلاثة شرب الخمر فشربا فلما انتشيا وقعا بالمرأة فزنيا بها فرآهما إنسان فقتلاه خوف الفضيحة. وقيل : إنهما سجدا للصنم.
وقيل : جاءتهما امرأة من أحسن الناس تخاصم زوجها. فقال : أحدهما للآخر هل سقط في نفسك مثل الذي سقط في نفسي؟ قال : نعم قال هل لك أن تقضي لها على زوجها فقال له صاحبه أما تعلم ما عند اللّه من العقوبة والعذاب. فقال له صاحبه : أما تعلم ما عند اللّه من العفو والرحمة فسألاها نفسها فقالت : لا إلّا أن يقضيا لي على زوجي فقضيا. ثم سألاها نفسها فقالت : لا إلّا أن تقتلاه فقال أحدهما : لصاحبه أما تعلم ما عند اللّه من العقوبة والعذاب؟ فقال له صاحبه أما تعلم ما عند اللّه من العفو والرحمة؟ فقتلاه ثم سألاها نفسها فقالت : لا إلّا أن لي صنما أعبده إن أنتما صليتما معي عنده فعلت. فقال أحدهما : لصاحبه مثل القول الأول فرد عليه مثله فصليا معها عنده فمسخت شهابا. وقال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه : قالت لهم لن تدركاني حتى تخبراني بالذي تصعدان به إلى السماء فقالا : اسم اللّه الأكبر. قالت : فما أنتما بمدركي حتى تعلماني إياه فقال أحدهما للآخر : علمها. فقال : إني أخاف اللّه فقال الآخر فأين رحمة اللّه فعلمها ذلك فتكلمت به وصعدت إلى السماء


الصفحة التالية
Icon