لباب التأويل، ج ١، ص : ٦٦
فمسخها اللّه كوكبا، فذهب بعضهم إلى أنها هي الزهرة بعينها وأنكر آخرون ذلك وقالوا : إن الزهرة من الكواكب السيارة السبعة التي أقسم اللّه بها فقال : فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ والتي فتنت هاروت وماروت كانت امرأة تسمى الزهرة لجمالها وحسنها فلما بغت مسخها اللّه تعالى شهابا. قالوا : فلما أمسى هاروت وماروت بعد ما قارفا الذنب، هما بالصعود إلى السماء فلم تطاوعهما أجنحتهما، فعلما ما حل بهما فقصدا إدريس النبي عليه السلام وأخبراه بأمرهما وسألاه أن يشفع لهما إلى اللّه عز وجل. وقالا له : رأينا يصعد لك من العبادة مثل ما يصعد لجميع أهل الأرض فاشفع لنا إلى ربك ففعل ذلك إدريس فخيرهما اللّه بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
فاختاروا عذاب الدنيا إذ علما أنه ينقطع، فهما ببابل يعذبان قيل : إنهما معلقان بشعورهما إلى قيام الساعة.
وقيل : إنهما منكوسان يضربان بسياط الحديد. وقيل : إن رجلا قصدهما ليتعلم السحر فوجدهما معلقين بأرجلهما مزرقة عيونهما مسودة جلودهما ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلّا قدر أربع أصابع وهما يعذبان بالعطش، فلما رأى ذلك هاله فقال : لا إله إلّا اللّه فلما سمعا كلامه قالا : لا إله إلّا اللّه من أنت؟ قال : رجل من الناس. فقالا : من أي أمة أنت؟ قال : من أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم قالا؟ أو قد بعث محمد صلّى اللّه عليه وسلّم قال : نعم فقال : الحمد للّه وأظهر الاستبشار فقال الرجل مم استبشاركما؟ قالا : إنه نبي الساعة وقد دنا انقضاء عذابنا.
(فصل : في القول بعصمة الملائكة) أجمع المسلمون على أن الملائكة معصومون فضلا، واتفق أئمة المسلمين على أن حكم الرسل من الملائكة حكم النبيين، سواء في العصمة في باب البلاغ عن اللّه عز وجل وفي كل شيء ثبتت فيه عصمة الأنبياء فكذلك الملائكة وأنهم مع الأنبياء في التبليغ إليهم، كالأنبياء مع أممهم، ثم اختلفوا في غير المرسلين من الملائكة فذهب طائفة من المحققين. وجميع المعتزلة إلى عصمة جميع الملائكة عن جميع الذنوب والمعاصي، واحتجوا على ذلك بوجوه سمعية وعقلية، وذهب طائفة إلى أن غير المرسلين من الملائكة غير معصومين، واحتجوا على ذلك بوجوه سمعية وعقلية منها قصة هاروت وماروت عن علي وما نقله أهل الأخبار والسير.
ونقله ابن جرير الطبري في تفسيره عن جماعة من الصحابة والتابعين فنقل قصة هاروت وماروت بألفاظ متقاربة.
عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وكعب الأحبار والسدي والربيع ومجاهد. وأجاب من ذهب إلى عصمة جميع الملائكة عن قصة هاروت وماروت، بأن ما نقله المفسرون وأهل الأخبار في ذلك لم يصح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منه شيء وهذه الأخبار إنما أخذت من اليهود، وقد علم افتراؤهم على الملائكة والأنبياء وقد ذكر اللّه عز وجل في هذه الآيات، افتراء اليهود على سليمان أولا، ثم عطف على ذلك قصة هاروت وماروت ثانيا، قالوا : ومعنى الآية وما كفر سليمان يعني بالسحر الذي افتعله عليه الشياطين، واتبعتهم في ذلك اليهود فأخبر عن افترائهم وكذبهم، وذكروا أيضا في الجواب عن هذه القصة وأنها باطلة وجوها : الأول : إن في القصة أن اللّه تعالى قال : للملائكة لو ابتليتم بما ابتليت به بنو آدم لعصيتموني، قالوا : سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نعصيك وفيه رد على اللّه تعالى وذلك كفر وقد ثبت أنهم كانوا معصومين قبل ذلك فلا يقع هذا منهم. الوجه الثاني : أنهما خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وذلك فاسد لأن اللّه تعالى لا يخير من أشرك، وإن كان قد صحت توبتهما فلا عقوبة عليهما.
الوجه الثالث أن المرأة لما فجرت فكيف يعقل أنها صعدت إلى السماء وصارت كوكبا وعظم اللّه قدرها بحيث أقسم بها في قوله : فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ فبان بهذه الوجوه ركة هذه القصة، واللّه أعلم بصحة ذلك وسقمه. والأولى تنزيه الملائكة عن كل ما لا يليق بمنصبهم وقوله تعالى : وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا يعني وما يعلمان أحدا حتى ينصحاه أولا ويقولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ أي ابتلاء ومحنة فَلا تَكْفُرْ أي لا تتعلم السحر فتعمل به فتكفر، قيل : يقولان إنما نحن فتنة فلا تكفر سبع مرات فإن أبى قبول نصحهما وصمم على التعليم يقولان له : ائت هذا الرماد فبل عليه فإذا فعل ذلك خرج منه نور ساطع في السماء فذلك الإيمان