لباب التأويل، ج ١، ص : ٨٣
لأن اليهود والنصارى يفتخرون بالانتساب إلى إبراهيم والوصلة إليه، لأنهم من بني إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، والعرب يفتخرون به لأنهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم وإذا كان كذلك كان إبراهيم هو الذي طلب بعثة هذا الرسول في آخر الزمان فمن رغب عن الإيمان بهذا الرسول الذي هو دعوة إبراهيم فقد رغب عن ملة إبراهيم ومعنى يرغب عن ملة إبراهيم أي يترك دينه وشريعته يقال : رغب في الشيء إذا أراده ورغب عنه إذا تركه إلّا من سفه نفسه قال ابن عباس : خسر نفسه وقيل : أهلك نفسه وقيل : امتهنها واستخف بها وأصل السفه الخفة. وقيل : الجهل وضعف الرأي فكل سفيه جاهل لأن من عبد غير اللّه فقد جهل نفسه لأنه لم يعترف بأن اللّه خالقها وقد جاء «من عرف نفسه فقد عرف ربه» ومعناه : أن يعرف نفسه بالذل والعجز والضعف والفناء، ويعرف ربه بالعز والقدرة والقوة والبقاء ويدل على هذا أن اللّه تعالى أوحى إلى داود عليه السلام اعرف نفسك واعرفني قال : يا رب وكيف أعرف نفسي وكيف أعرفك؟ قال : اعرف نفسك بالعجز والضعف والفناء واعرفني بالقوة والقدرة والبقاء وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ أي اخترناه فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ يعني الفائزين وقيل :
مع الأنبياء في الجنة إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ أي استقم على الإسلام واثبت عليه لأنه كان مسلما لأن الأنبياء إنما نشئوا على الإسلام والتوحيد، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما : قال له ذلك حين خرج من السرب وذلك عند استدلاله بالكواكب والشمس والقمر واطلاعه على أمارات الحدوث فيها، وافتقارها إلى محدث مدبر فلما عرف ذلك قال له ربه : أسلم قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي قال إبراهيم : خضعت بالطاعة وأخلصت العبادة لمالك الخلائق ومدبرها ومحدثها. وقيل : معنى أسلم أخلص دينك وعبادتك للّه واجعلها سليمة. وقيل : الإيمان من صفات القلب والإسلام من صفات الجوارح وإن إبراهيم كان مؤمنا بقلبه عارفا باللّه فأمره اللّه أن يعمل بجوارحه وقيل : معناه أسلم نفسك إلى اللّه تعالى وفوض أمرك إليه. قال : أسلمت أي فوضت أمري لرب العالمين. قال ابن عباس رضي اللّه عنهما : وقد حقق ذلك حيث لم يستعن بأحد من الملائكة حين ألقي في النار. قوله عز وجل :
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٢ الى ١٣٥]
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥)
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ يعني بكلمة الإخلاص، وهي لا إله إلّا اللّه. وقيل هي الملة الحنيفية وكان لإبراهيم ثمانية أولاد إسماعيل وأمه هاجر القبطية وإسحاق وأمه سارة ومدين ومدان ويقنان وزمران وشيق وشوخ وأمهم قطورا بنت يقطن الكنعانية تزوجها إبراهيم حين وفاة سارة، فإن قلت، لم قال : وصى بها إبراهيم بنيه ولم يقل أمرهم؟. قلت : لأن لفظ الوصية أوكد من لفظ الأمر لأن الوصية إنما تكون عند الخوف من الموت وفي ذلك الوقت يكون احتياط الإنسان لولده أشد وأعظم، وكانوا هم إلى قبول وصيته أقرب وإنما خص بنيه بهذه الوصية لأن شفقة الرجل على بنيه أكثر من شفقته على غيرهم. وقيل : لأنهم كانوا أئمة يقتدى بهم فكان صلاحهم صلاحا لغيرهم وَيَعْقُوبُ أي ووصى يعقوب بمثل ما وصي به إبراهيم، وسمي يعقوب لأنه هو والعيص كانا توأمين في بطن واحد فتقدم العيص وقت الولادة في الخروج من بطن أمه وخرج يعقوب على أثره آخذا بعقبه قال ابن عباس : وقيل سمي يعقوب لكثرة عقبه وكان له من الولد اثنا عشر وهم : روبيل وشمعون ولاوى ويهوذا


الصفحة التالية
Icon