لباب التأويل، ج ٢، ص : ٢٤
مِنْهُمْ يعني أنهم لم يخونوا ولم ينقضوا العهد وهم عبد اللّه بن سلام وأصحابه الذين أسلموا من أهل الكتاب فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ أي فاعف عن زلاتهم يا محمد واصفح عن جرمهم ومؤاخذتهم وهذا الأمر بالعفو والصفح عن أهل الكتاب منسوخ بقوله تعالى : قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية التي نزلت في سورة براءة قاله قتادة وقيل إنها غير منسوخة بل نزلت في قوم كان بينهم وبين النبي صلى اللّه عليه وسلم عهد فغدروا ونقضوا ذلك العهد فأظهر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم على ذلك وأنزل هذا الآية ولم تنسخ وذلك أن يجوز أن يعفو عن غدرة فعلوها ما لم ينصبوا حربا ولم يمنعوا من أداء الجزية والصغار وعلى هذا القول بأنها غير منسوخة يكون معنى الآية فاعف عن مؤمنهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم قبل ذلك. وقيل : معناه فاعف عن صغائر زلاتهم ما داموا باقين على العهد إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يعني إذا عفوت عنهم فإنك تحسن واللّه يحب المحسنين قوله عز وجل : وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ لما ذكر نقض اليهود الميثاق اتبعه بذكر نقض النصارى الميثاق وأن سبيل النصارى مثل سبيل اليهود في نقض العهد والميثاق وإنما قال تعالى : وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ولم يقل من النصارى لأنهم الذين ابتدعوا هذا الاسم وسموا به أنفسهم لأن اللّه تعالى سماهم به أخذنا ميثاقهم يعني كتبنا عليهم في الإنجيل أن يؤمنوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ يعني فتركوا ما أمروا به من الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم فَأَغْرَيْنا يعني فألقينا وأوقعنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ.
قال قتادة : لما تركوا العمل بكتاب اللّه وعصوا رسله وضيعوا فرائضه وعطلوا حدوده، ألقى اللّه العداوة والبغضاء بينهم. وقيل : العداوة والبغضاء هي الأهواء المختلفة وفي الهاء والميم من قوله بينهم قولان : أحدهما أن المراد بهم اليهود والنصارى فإن العداوة والبغضاء حاصلة بينهم إلى يوم القيامة. والقول الثاني أن المراد بهم فرق النصارى، فإن كل فرقة منهم تكفر الأخرى وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ يعني أن اللّه تعالى يخبرهم في الآخرة بأعمالهم التي عملوها في الدنيا ففيه وعيد وتهديد لهم. قوله تعالى :
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٥ الى ١٧]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)
يا أَهْلَ الْكِتابِ يعني اليهود والنصارى قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يعني محمد صلى اللّه عليه وسلم يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ يعني أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم يظهر كثيرا مما أخفوا وكتموا من أحكام التوراة والإنجيل وذلك أنهم أخفوا آية الرجم وصفة محمد صلى اللّه عليه وسلم وغير ذلك ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيّن ذلك وأظهره وهذا معجزة النبي صلى اللّه عليه وسلم لأنه لم يقرأ كتابهم ولم يعلم ما فيه فكان إظهاره ذلك معجزة له وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ يعني مما يكتمونه فلا يتعرض له ولا يؤاخذهم به لأنه لا حاجة إلى إظهاره والفائدة في ذلك أنهم يعلمون كون النبي صلى اللّه عليه وسلم عالما بما يخفونه وهو معجزة له أيضا فيكون ذلك داعيا لهم إلى الإيمان به قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ يعني محمدا صلى اللّه عليه وسلم إنما سماه اللّه نورا لأنه يهتدى به كما يهتدى بالنور في الظلام وقيل : النور هو الإسلام وَكِتابٌ مُبِينٌ يعني القرآن يَهْدِي بِهِ اللَّهُ يعني يهدي اللّه بالكتاب المبين مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ أي اتبع ما رضيه اللّه وهو دين الإسلام لأنه مدحه وأثنى عليه سُبُلَ