لباب التأويل، ج ٢، ص : ٢٦
دعواهم وكذبهم فيما قالوا بقوله تعالى : قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ. معناه : إذا كان الأمر كما تزعمون فلم يعذبكم اللّه وأنتم قد أقررتم على أنفسكم أنه يعذبكم أربعين يوما وهل رأيتم والدا يعذب ولده بالنار وهل تطيب نفس محب أن يعذب حبيبه في النار بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يعني بل أنتم يا معشر اليهود والنصارى كسائر بني آدم مجزيون بالإساءة والإحسان.
قوله تعالى : يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ يعني لمن تاب من اليهود والنصرانية وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ يعني من مات على اليهودية والنصرانية. وقيل : معناه يهدي من يشاء فيغفر له ويميت من يشاء على كفره فيعذبه وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما. يعني : أنه تعالى يملك ذلك لا شريك له في ذلك فيعارضه وهو الذي يملك المغفرة لمن يشاء والتعذيب لمن يشاء وفيه دليل على أنه تعالى لا ولد له لأن من يملك السموات والأرض يستحيل أن يكون له شبيه من خلقه أو شريك في ملكه وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يعني وإلى اللّه مرجع العباد في الآخرة فيجازيهم بأعمالهم. قوله تعالى : يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ قال ابن عباس : قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود : يا معشر اليهود اتقوا اللّه فو للّه إنكم لتعلمون أنه رسول اللّه لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهودا : ما قلنا ذلك لكم وما أنزل اللّه من كتاب بعد موسى ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده فأنزل اللّه هذه الآية يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يعني محمدا صلى اللّه عليه وسلم يبين لكم يعني أحكام الدين والشرائع على فترة من الرسل قال ابن عباس : يعني على انقطاع من الرسل. واختلف العلماء في قدر مدة الفترة فروي عن سلمان قال : فترة ما بين عيسى ومحمد صلى اللّه عليه وسلم ستمائة سنة أخرجه البخاري. وقال قتادة : كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى اللّه عليه وسلم ستمائة سنة وما شاء اللّه من ذلك وعنه أنها خمسمائة سنة وستون سنة. وقال ابن السائب : خمسمائة وأربعون سنة. وقال الضحاك : إنها أربعمائة وبضع وثلاثون سنة. ونقل ابن الجوزي عن ابن عباس : على فترة من الرسل قال : على انقطاع منهم.
قال : وكان بين ميلاد عيسى وميلاد محمد صلى اللّه عليه وسلم خمسمائة سنة وتسعة وستون سنة وهي الفترة وكان بين عيسى ومحمد أربعة من الرسل فذلك قوله إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ قال : والرابع لا أدري من هو فكانت تلك السنون مائة وأربعا وثلاثين سنة نبوة وسائرها فترة. قال أبو سليمان الدمشقي : والرابع واللّه أعلم خالد بن سنان الذي قال فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : نبيّ ضيعه قومه.
قال الإمام فخر الدين الرازي : والفائدة في بعثة محمد صلى اللّه عليه وسلم عند فترة الرسل، هي أن التحريف والتغيير كان قد تطرف إلى الشرائع المتقدمة لتقادم عهدها وطول زمانها وسبب ذلك اختلاط الحق بالباطل والكذب بالصدق فصار ذلك عذرا ظاهرا في إعراض الخلق عن العبادات لأن لهم أن يقولوا إلهنا عرفنا أنه لا بد من عبادتك ولكنا ما عرفنا كيف نعبدك فبعث اللّه في هذا الوقت محمدا صلى اللّه عليه وسلم لإزالة هذا العذر فذلك قوله عز وجل : أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ يعني لئلا تقولوا وقيل معناه كراهية أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير في هذا الوقت فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ يعني فقد أرسلت إليكم محمدا صلى اللّه عليه وسلم لإزالة هذا العذر وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني أنه قادر على بعثة الرسل في وقت الحاجة إليهم. قوله عز وجل : وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ قال ابن عباس : اذكروا عافية اللّه. وقيل : معناه اذكروا أيادي اللّه عندكم وأيامه التي أنعم فيها عليكم قال الطبري : هذا تعريف من اللّه تعالى لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم بتمادي هؤلاء في الغي وبعدهم عن الحق وسوء اختيارهم لأنفسهم وشدة مخالفتهم لأنبيائهم مع كثرة نعم اللّه عليهم وتتابع أياديه وآلائه لديهم سلّى بذلك نبيه صلى اللّه عليه وسلم عما نزل به من مقاساتهم ومعالجتهم في ذات اللّه عز وجل إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ يعني أن موسى عليه السلام ذكر قومه بني إسرائيل بأيام اللّه عندهم وبما أنعم به عليهم فقال اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ فضلكم بأن جعل فيكم أنبياء. قال