لباب التأويل، ج ٢، ص : ٢٩
وجهه وسرّ. قوله تعالى : قالَ يعني موسى عليه السلام رَبِّ أي يا رب إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي يعني إني لا أملك إلا نفسي وأخي لا يملك إلا نفسه وقيل معناه لا أملك إلا نفسي ونفس أخي لأنه كان يطيعه وإذا كان كذلك فقد ملكه وإنما قال موسى لا أملك إلا نفسي وأخي وإن كان معه في طاعته يوشع بن نون وكالب بن يوفنا لاختصاص هارون به ولمزيد الاعتناء بأخيه ويحتمل أن يكون معناه وأخي في الدين ومن كان على دينه وطاعته فهو أخوه في الدين فعلى هذا الاحتمال يدخل الرجلان في قوله وأخي ثم قال : فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي افصل وقيل احكم بيننا وبين القوم الفاسقين يعني الخارجين عن طاعتك وإنما قال موسى ذلك لأنه لما رأى بني إسرائيل وما فعلوه من مخالفة أمر اللّه وهمهم بيوشع وكالب غضب لذلك ودعا عليهم فأجاب اللّه تعالى دعاء موسى عليه السلام (قال) اللّه عز وجل : فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ يعني فإن الأرض المقدسة محرمة عليهم ومعناه أن تلك البلدة محرمة عليهم أبدا ولم يرد تحريم تعبد وإنما أراد تحريم منع فأوحى اللّه تعالى إلى موسى «بي حلفت لأحرمن عليهم دخول الأرض المقدسة غير عبدي يوشع وكالب ولأتيهنهم في هذه البرية أربعين سنة مكان كل يوم من الأيام التي كانوا يتجسسون فيها سنة ولألقين جيفهم في هذه القفار وأما أبناؤهم الذين لم يعملوا الشر فيدخلونها» فذلك قوله تعالى فإنها يعني الأرض المقدسة محرمة عليهم. قال أكثر أهل العلم : هذا تحريم منع لا تحريم تعبّد. وقيل : يحتمل أن يكون تحريم تعبد فيجوز أن يكون اللّه تعالى أمرهم بأن يمكثوا في تلك المفازة في الشدة والبلية عقابا لهم على سوء صنيعهم (أربعين سنة) فمن قال إن الكلام ثم عند قوله فإنها محرمة عليهم قال أربعين سنة يتيهون في الأرض فأما الحرمة فإنها مؤبدة حتى يموتوا ويدخلها أبناؤهم.
وقيل : معناه أن الأرض المقدسة محرمة عليهم أربعين سنة ثم يدخلونها وتفتح لم.
وقوله تعالى : يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ يعني يتحيرون فيها. يقال : تاه يتيه إذا تحير. واختلفوا في مقدار الأرض التي تاهوا فيها، فقيل : مقدار ستة فراسخ. وقيل : ستة فراسخ في اثني عشر فرسخا. وقيل : تسع فراسخ في ثلاثين فرسخا. وكان القوم ستمائة ألف مقاتل وكانوا يرحلون ويسيرون يومهم أجمع فإذا أمسوا إذا هم في الموضع الذي رحلوا منه وكان ذلك التيه عقوبة لبني إسرائيل ما خلا موسى وهارون ويوشع وكالب فإن اللّه تعالى سهله عليهم وأعانهم عليه كما سهل على إبراهيم النار وجعلها بردا وسلاما.
فإن قلت : كيف يعقل بقاء هذا الجمع العظيم في هذا المقدار الصغير من الأرض أربعين سنة بحيث لم يخرج منه أحد؟.
قلت : هذا من باب خوارق العادات. وخوارق العادات في أزمان الأنبياء غير مستبعدة، فإن اللّه على كل شيء قدير. وقيل : إن فسرنا ذلك التحريم بتحريم التعبد زال هذا الإشكال لاحتمال أن اللّه ما حرم عليهم الخورج من تلك الأرض بل أمر بالمكث أربعين سنة في المشقة والمحنة جزاء لهم على سوء صنيعهم ومخالفتهم أمر اللّه ولما حصل بنو إسرائيل في التيه شكوا إلى موسى عليه السلام حالهم فأنزل اللّه عليهم المن والسلوى وأعطوا من الكسوة ما هي قائمة لهم فينشأ الناشئ منهم فتكون معه على مقداره وهيئته وسأل موسى ربه أن يسقيهم فأتى بحجر أبيض من جبل الطور فكان إذا نزل ضربه بعصاه فيخرج منه اثنتا عشرة عينا لكل سبط منهم عين وأرسل اللّه عليهم الغمام يظلّهم في التيه ومات في التيه كل من دخله ممن جاوز عشرين سنة غير يوشع بن نون وكالب بن يوفنا ولم يدخل أريحاء ممن قال : إنا لن ندخلها أبدا واختلفوا في أن موسى عليه السلام مات في التيه أم خرج منه فقيل : إن موسى وهارون ماتا في التيه جميعا.
( (قصة وفاة موسى وهارون عليهما السلام)) فأما هارون فإنه كان أكبر من موسى بسنة. قال السدي : أوحى اللّه عز وجل إلى موسى إني متوفى هارون


الصفحة التالية
Icon