لباب التأويل، ج ٢، ص : ٢٩١
خوف، وأما العصاة فيخافون عقابه فالمؤمن إذا ذكر اللّه وجل قلبه وخافه على قدر مرتبته في ذكر اللّه.
فإن قلت : إنه سبحانه وتعالى قال في هذه الآية وجلت قلوبهم بمعنى خافت وقال في آية أخرى تطمئن قلوبهم بذكر اللّه فكيف الجمع بينهما؟ قلت : لا منافاة بين هاتين الحالتين لأن الوجل هو خوف العقاب والاطمئنان إنما يكون من ثلج اليقين وشرح الصدر بنور المعرفة والتوحيد وهذا مقام الخوف والرجاء وقد جمعا في آية واحدة وهي قوله سبحانه وتعالى : تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ. والمعنى : تقشعر جلودهم من خوف عقاب اللّه ثم تلين جلودهم وقلوبهم عند ذكر اللّه ورجاء ثوابه وهذا حاصل في قلب المؤمنين ثم قال تعالى : وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً يعني وإذا قرأت عليهم آيات القرآن زادتهم تصديقا قاله ابن عباس. والمعنى : أنه كلما جاءهم شيء من عند اللّه آمنوا به فيزدادون بذلك إيمانا وتصديقا لأن زيادة الإيمان بزيادة التصديق وذلك على وجهين الوجه الأول وهو الذي عليه عامة أهل العلم على ما حكاه الواحدي أن كل من كانت الدلائل عنده أكثر وأقوى كان إيمانه أزيد لأن عند حصول كثرة الدلائل وقوتها يزول الشك ويقوى اليقين فتكون معرفته باللّه أقوى فيزداد إيمانه.
الوجه الثاني : هو أنهم يصدقون بكل ما يتلى عليهم من عند اللّه ولما كانت التكاليف متوالية في زمن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكلما تجدد تكليف صدقوا به فيزدادون بذلك الإقرار تصديقا وإيمانا ومن المعلوم أن من صدق إنسانا في شيئين كان أكبر ممن يصدقه في شيء واحد فقوله تعالى : وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً معناه أنهم كلما سمعوا آية جديدة أتوا بإقرار جديد وتصديق جديد فكان ذلك زيادة في إيمانهم واختلف أناس في أن الإيمان هل يقبل الزيادة والنقص أم لا؟ فالذين قالوا إن الإيمان عبارة عن التصديق القلبي قالوا لا يقبل الزيادة لإجماع أهل اللغة على أن الإيمان هو التصديق والاعتقاد بالقلب وذلك لا يقبل الزيادة ومن قال إن الإيمان عبارة عن مجموع أمور ثلاثة وهي التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح والأركان فقد استدل على ذلك بهذه الآية من وجهين أحدهما أن قوله زادتهم إيمانا صريح في أن الإيمان يقبل الزيادة ولو كان عبارة عن التصديق بالقلب فقط لما قبل الزيادة وإذا قيل لزيادة فقد قبل النقص.
الوجه الثاني : أنه ذكر في هذه الآية أوصافا متعددة من أحوال المؤمنين ثم قال سبحانه وتعالى بعد ذلك :
أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا. وذلك يدل على أن تلك الأوصاف داخلة في مسمى الإيمان.
وروي عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا اللّه وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» أخرجاه في الصحيحين ففي هذا الحديث دليل على أن الإيمان فيه أعلى وأدنى وإذا كان كذلك كان قابلا للزيادة والنقص. قال عمير بن حبيب، وكانت له صحبة : إن للإيمان زيادة ونقصانا. قيل له : فما زيادته؟ قال : إذا ذكرنا اللّه وحمدناه فذلك زيادته وإذا سهونا وغفلنا فذلك نقصانه. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي : أن للإيمان فرائض وشرائط وشرائع وحدودا وسننا فمن استكملها فقد استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان.
وقوله سبحانه وتعالى : وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ معناه يفوضون جميع أمورهم إليه ولا يرجون غيره ولا يخافون سواه.
واعلم أن المؤمن إذا كان واثقا بوعد اللّه ووعيده كان من المتوكلين عليه لا على غيره وهي درجة عالية ومرتبة شريفة لأن الإنسان يصير بحيث لا يبقى له اعتماد في شيء من أموره إلا على اللّه عز وجل واعلم أن هذه المراتب الثلاث أعني الوجل عند ذكر اللّه وزيادة الإيمان عند تلاوة القرآن والتوكل على اللّه من أعمال القلوب


الصفحة التالية
Icon