لباب التأويل، ج ٢، ص : ٣٠٥
عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها» أخرجه أبو داود عن جرير بن عبد اللّه قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول «ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه ولم يغيروا إلا أصابهم اللّه بعقاب قبل أن يموتوا» أخرجه أبو داود. وقال ابن زيد : أراد بالفتنة افتراق الكلمة ومخالفة بعضهم بعضا (ق) عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :«ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي خير من الساعي من تشرف لها تستشرفه ومن وجد ملجأ أو معاذا فليعذبه» فإن قلت ظاهر قوله تعالى : وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً يشمل الظالم وغير الظالم كما تقدم تفسيره فكيف يليق برحمة اللّه وكرمه أن يوصل الفتنة إلى من يذنب.
قلت : إنه تعالى مالك الملك وخالق الخلق وهم عبيده وفي ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء لا يسأل عما يفعل وهم يسألون فيحسن ذلك منه على سبيل المالكية أو لأنه تعالى علم اشتمال ذلك على أنواع المصلحة واللّه أعلم بمراده.
وقوله سبحانه وتعالى : وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فيه تحذير ووعيد لمن واقع الفتنة التي حذره اللّه منها.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧)
وقوله عز وجل : وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ لما أمر اللّه سبحانه وتعالى المؤمنين بطاعة اللّه وطاعة رسوله وحذرهم من الفتنة ذكرهم نعمته عليهم. فقال تعالى : واذكروا يا معشر المؤمنين المهاجرين إذ أنتم قليل يعني في العدد مستضعفون في الأرض يعني في أرض مكة في ابتداء الإسلام تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ يعني كفار مكة قال عكرمة كفار العرب وقال وهب ابن منبه يعني فارس والروم فَآواكُمْ يعني إلى المدينة وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ يعني وقواكم بالأنصار. وقال الكلبي : وقواكم يوم بدر بالملائكة وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ يعني الغنائم أحلها لكم ولم يحلها لأحد قبلكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يعني تشكرون اللّه على نعمه عليكم قوله سبحانه وتعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ قال الزهري والكلبي : نزلت هذه الآية في أبي لبابة هارون بن عبد المنذر الأنصاري من بني عوف بن مالك وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصلح على ما صالح عليه إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام فأبى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعيد بن معاذ فأبوا وقالوا أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر وكان مناصحا لهم لأن ماله وولده وعياله كان عندهم فبعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأتاهم فقالوا : يا أبا لبابة ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه يعني إنه الذبح فلا تفعلوا. قال أبو لبابة : واللّه ما زالت قدماي عن مكانهما حتى عرفت أني قد خنت اللّه ورسوله ثم انطلق على وجهه ولم يأت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وشدّ نفسه على سارية من سواري المسجد.
وقال : واللّه لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب اللّه عليّ فلما بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خبره، قال : أما لو جاءني لاستغفرت له أما إذا فعل ما فعل فإني لا أطلقه حتى يتوب اللّه عليه فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خرّ مغشيا عليه ثم تاب اللّه عليه فقيل له يا أبا لبابة قد تيب عليك فقال واللّه لا أحل نفسي حتى يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو الذي يحلني فجاء فحله بيده ثم قال أبو لبابة إن تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من