لباب التأويل، ج ٢، ص : ٤٣٦
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣)
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يعني : هو اللّه الذي يسيركم يعني يحملكم في البر على ظهور الدواب وفي البحر على الفلك. وقيل : معناه هو اللّه الهادي لكم في السير في البر والبحر طلبا للمعاش أو هو المهيّئ لكم أسباب السير في البر والبحر حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ يعني : السفن. ولفظة الفلك : تطلق على الواحد والجمع وتقديراهما مختلفان فإن أريد بها الواحد كان كبناء قفل، وإن أريد بها الجمع كان كبناء أسد والمراد بها هنا الجمع لقوله تعالى : وَجَرَيْنَ بِهِمْ يعني : وجرت السفن بركابها.
فإن قلت : ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة؟ قلت : قال صاحب الكشاف : المقصود منه المبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم مزيد الإنكار والتقبيح وقال غيره إن مخاطبة اللّه لعباده على لسان نبيه صلى اللّه عليه وسلم بمنزلة الخبر عن الغائب وكل من أقام الغائب مقام المخاطب حسن منه أن يرده إلى الغائب. وقيل : إن الالتفات في الكلام من الغيبة إلى الحضور وبالعكس من فصيح كلام العرب بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ يعني وجرت السفن بريح طيبة ساكنة وَفَرِحُوا بِها يعني وفرح ركبان تلك الفلك بتلك الريح الطيبة، لأن الإنسان إذا ركب السفينة ووجد الريح الطيبة الموافقة للمقصود حصل له النفع التام والمسرة العظيمة بذلك جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ قيل : إن الضمير في جاءتها يرجع إلى الريح فيكون المعنى : جاءت الريح الطيبة ريح عاصف فأقلبتها. وقيل : الضمير في جاءتها يرجع إلى الفلك. يعني : جاءت الفلك. ريح عاصف. يقال : ريح عاصف وعاصفة، ومعنى عصفت الريح : اشتدت. وأصل العصف : السرعة وإنما قال : عاصف، لأنه أراد به ذات عصوف أو لأجل أن لفظ الريح قد يذكر وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ يعني : وجاء ركبان السفينة الموج وهو ما ارتفع وعلا من غوارب الماء في البحر وقيل : هو شدة حركة الماء واختلاطه وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ يعني : وظنوا أن الهلاك قد أحاط بهم وأحدق. وقيل : المراد من الظن اليقين أي وأيقنوا أنه الهلاك.
وقيل : بل المراد منه المقاربة من الهلاك والدنو منه والإشراف عليه دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ يعني أنهم أخلصوا في الدعاء للّه عز وجل ولم يدعوا أحدا سواه من آلهتهم وقيل في معنى هذا الإخلاص العلم الحقيقي لا إخلاص الإيمان لأنهم كانوا يعلمون حقيقة أنه لا ينجيهم من جميع الشدائد والبلايا إلا اللّه تعالى فكانوا إذا وقعوا في شدة وضر وبلاء أخلصوا للّه الدعاء لَئِنْ أَنْجَيْتَنا أي قائلين لئن أنجيتنا يا ربنا مِن ْ هذِهِ
يعني من هذه الشدائد التي نحن فيها وهي الريح العاصفة والأمواج الشديدة لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ يعني من الشاكرين لك على إنعامك علينا بخلاصنا مما نحن فيه من هذه الشدة فَلَمَّا أَنْجاهُمْ يعني : فلما أنجى اللّه هؤلاء الذين ظنوا أنهم أحيط بهم من الشدة التي كانوا فيها إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يعني أنهم أخلفوا اللّه ما وعدوه وبغوا في الأرض فتجاوزوا فيها إلى غير ما أمر اللّه به من الكفر والعمل بالمعاصي على ظهرها وأصل البغي مجاوزة الحد.
قال صاحب المفردات : البغي على ضربين، أحدهما محمود وهو مجاوزة العدل إلى الإحسان والفرض إلى التطوع.
والثاني مذموم وهو مجاوزة الحق إلى الباطل أو إلى الشبهة.
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى قوله بغير الحق والبغي لا يكون بحق قلت بلى قد يكون بحق