لباب التأويل، ج ٢، ص : ٤٥٠
سبحانه وتعالى : إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً يعني شاهدين لأعمالكم وذلك لأن اللّه سبحانه وتعالى شاهد على كل شيء وعالم بكل شيء لأنه لا محدث ولا خالق ولا موجد إلا اللّه تعالى فكل ما يدخل في الوجود من أحوال العباد وأعمالهم الظاهرة والباطنة داخل في علمه وهو شاهد عليه إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ يعني أن اللّه سبحانه وتعالى شاهد عليكم حين تدخلون وتخوضون في ذلك العمل.
والإفاضة : الدخول في العمل على جهة الانتصاب إليه والانبساط فيه. وقال ابن الأنباري : معناه إذ تدفعون فيه وتبسطون في ذكره. وقيل : الإفاضة : الدفع بكثرة. وقال الزجاج : تنشرون فيه. يقال : أفاض القوم في الحديث، إذا انتشروا فيه وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ يعني : وما يبعد ويغيب عن ربك يا محمد من عمل خلقه شيء لأنه عالم به وشاهد عليه. وأصل العزوب : البعد. يقال منه كلام عازب إذا كان بعيد المطلب مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ يعني وزن ذرة والمثقال : الوزن. والذرّة : النملة الصغيرة الحمراء وهي خفيفة الوزن جدا فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ فإن قلت : لم قدم ذكر الأرض على السماء هنا وقدم ذكر السماء على الأرض في سورة سبأ وما فائدة ذلك؟ قلت : كان حق السماء أن تقدم على الأرض كما في سورة سبأ إلا أنه تعالى لما ذكر في هذه الآية شهادته على أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم، ثم وصل ذلك بقوله وما يعزب عن ربك حسن تقديم الأرض على السماء في هذا الموضع لهذه الفائدة وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ يعني من الذرة وَلا أَكْبَرَ يعني منها إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ يعني في اللوح المحفوظ.
قوله سبحانه وتعالى : أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ اعلم أننا نحتاج أولا في تفسير هذه الآية أن نبين من يستحق اسم الولاية ومن هو الولي فنقول : اختلف العلماء فيمن يستحق هذا الاسم فقال ابن عباس في هذه الآية هم الذين يذكر اللّه لرؤيتهم وروى الطبري بسنده عن سعيد بن جبير مرسلا قال :«سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن أولياء اللّه فقال هم الذين إذ رأوا ذكر اللّه» وقال ابن زيد : هم الذين آمنوا وكانوا يتقون ولن يتقبل الإيمان إلا بالتقوى.
وقال قوم : هم المتحابون في اللّه. ويدل على ذلك ما روي عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
«إن من عباد اللّه لأناسا ما هم بأنبياء ولا بشهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من اللّه قالوا يا رسول اللّه تخبرنا من هم؟. قال : هم قوم تحابوا في اللّه على غير أرحام بينهم ولا أموال يتقاطعونها فو اللّه إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس. وقرأ هذه الآية : ألا إن أولياء اللّه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» أخرجه أبو داود.
عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «يقول اللّه تبارك وتعالى يوم القيامة أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي» أخرجه مسلم.
عن معاذ بن جبل قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول :«قال اللّه تعالى : المتحابون بجلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء» أخرجه الترمذي.
وروى البغوي بسنده عن أبي مالك الأشعري. قال : كنت عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال :«إن للّه عبيدا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء بقربهم ومقعدهم من اللّه يوم القيامة. قال : وفي ناحية القوم أعرابي، فجثا على ركبتيه ورمى بيديه ثم قال : حدثنا يا رسول اللّه عنهم من هم؟ قال : فرأيت في وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم البشر فقال هم عباد من عباد اللّه ومن بلدان شتى وقبائل شتى لم يكن بينهم أرحام يتواصلون بها ولا دنيا يتبادلون بها يتحابون بروح اللّه يجعل وجوههم نورا ويجعل لهم منابر من لؤلؤ قدام الرحمن، يفزع الناس ولا يفزعون ويخاف الناس


الصفحة التالية
Icon