لباب التأويل، ج ٢، ص : ٥٥٠
فقلت يمين اللّه أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
أي لا أبرح قاعدا وقوله حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً قال ابن عباس يعني دنفا وقال مجاهد الحرض ما دون الموت يعني قريبا من الموت، وقال ابن إسحاق : يعني فاسدا لا عقل له والحرض الذي فسد جسمه وعقله وقيل ذائبا من الهم وأصل الحرض الفساد في الجسم والعقل من الحزن أو الهم ومعنى الآية حتى تكون دنف الجسم مخبول العقل يعني لا تنتفع بنفسك من شدة الحزن والهم والأسف أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ يعني من الأموات.
فإن قلت كيف حلفوا على شيء لم يعلموا حقيقته قطعا؟.
قلت : إنهم بنوا الأمر على الأغلب الظاهر أي نقوله ظنا منا أن الأمر يصير إلى ذلك الَ
يعني يعقوب عند ما رأى قولهم له وغلظتهم عليه نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
أصل البث إثارة الشيء وتفريقه وبث النفس ما انطوت عليه من الغم والشر، قال ابن قتيبة : البث أشد الحزن وذلك لأن الإنسان إذا ستر الحزن وكتمه كان هما فإذا ذكره لغيره كان بثا فالبث أشد الحزن والحزن الهم فعلى هذا يكون المعنى إنما أشكو حزني العظيم وحزني القليل إلى اللّه لا إليكم.
قال ابن الجوزي : روى الحاكم أبو عبد اللّه في صحيحه من حديث أنس بن مالك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال «كان ليعقوب أخ مؤاخ فقال له ذات يوم يا يعقوب ما الذي أذهب بصرك وما الذي قوس ظهرك قال أما الذي أذهب بصري فالبكاء على يوسف وأما الذي قوس ظهري فالحزن على بنيامين فأتاه جبريل فقال يا يعقوب إن اللّه يقرئك السلام ويقول لك أما تستحي أن تشكو إلى غيري فقال إنما أشكو بثي وحزني إلى اللّه فقال جبريل اللّه أعلم بما تشكو» وقيل : إنه دخل على يعقوب جار له فقال له يا يعقوب مالي أراك قد تهشمت بالضعف وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك فقال هشمني وأفناني ما ابتلاني اللّه به من هم يوسف فأوحى اللّه إليه يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي فقال يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي قال قد غفرتها لك فكان بعد ذلك إذا سئل يقول إنما أشكو بثي وحزني إلى اللّه تعالى وقيل إن اللّه أوحى إليه وعزتي وجلالي لا أكشف ما بك حتى تدعوني فعند ذلك قال إنما أشكو بثي وحزني إلى اللّه تعالى ثم قال أي رب أما ترحم الشيخ الكبير أذهبت بصري وقوست ظهري فاردد على ريحانتي أشممها شمة قبل أن أموت ثم اصنع ما شئت فأتاه جبريل فقال يا يعقوب إن اللّه يقرئك السلام ويقول لك أبشر فوعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك أتدري لم وجدت عليك لأنكم ذبحتم شاة فقام على بابكم فلان المسكين وهو صائم فلم تطعموه منها شيئا وإن أحب عبادي إلي الأنبياء ثم المساكين اصنع طعاما وادع إليه المساكين فصنع طعاما ثم قال من كان صائما فليفطر الليلة عند آل يعقوب وكان بعد ذلك إذا تغدى أمر مناديا ينادي من أراد أن يتغدى فليأت آل يعقوب وإذا أفطر أمر أن ينادي من أراد أن يفطر فليأت آل يعقوب فكان يتغدى ويتعشى مع المساكين، وقال وهب بن منبه أوحى اللّه تعالى إلى يعقوب أتدري لم عاقبتك وحبست عنك يوسف ثمانين سنة قال يا رب لا قال لأنك شويت عناقا وقترت على جارك و
أكلت ولم تطعمه وقيل إن سبب ابتلاء يعقوب أنه ذبح عجلا بين يدي أمه وهي تخور فلم يرحمها.
فإن قلت هل في هذه الروايات ما يقدح في عصمة الأنبياء؟
قلت : لا وإنما عوقب يعقوب بهذا لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين وإنما يطلب من الأنبياء من الأعمال على قدر منصبهم وشريف رتبتهم ويعقوب عليه الصلاة والسلام من أهل بيت النبوة والرسالة ومع ذلك فقد ابتلى اللّه كل واحد من أنبيائه بمحنة فصبر وفوض أمره إلى اللّه فإبراهيم عليه الصلاة والسلام ألقي في النار فصبر ولم يشك إلى أحد وإسماعيل ابتلي بالذبح فصبر وفوض أمره إلى اللّه وإسحاق ابتلي بالعمى فصبر ولم يشك إلى أحد ويعقوب ابتلي بفقده ولده يوسف وبعده بنيامين ثم عمي بعد ذلك أو ضعف بصره من كثرة البكاء


الصفحة التالية
Icon