لباب التأويل، ج ٢، ص : ٦٦
آلهة ثلاثة وأن الإلهية مشتركة بينهم وأن كل واحد منهم إله ويبين ذلك قوله تعالى للمسيح : أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ فقوله ثالث ثلاثة فيه إضمار تقديره إن اللّه أحد ثلاثة آلهة أو واحد من ثلاثة آلهة. قال الواحدي : ولا يكفر من يقول إن اللّه ثالث ثلاثة ولم يرد به أنه ثالث ثلاثة آلهة لأنه ما من اثنين إلا واللّه ثالثهما بالعلم ويدل عليه قوله تعالى في سورة المجادلة ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وقد قال النبي صلى اللّه عليه وسلم :«يا أبا بكر ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما؟». والطريق الثاني : أن المتكلمين حكوا عن النصارى أنهم يقولون : إنه جوهر واحد ثلاثة أقانيم أب وابن وروح القدس وهذه الثلاثة إله واحد كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة، وعنوا بالأب الذات وبالابن الكلمة وبالروح الحياة وأثبتوا الذات والكلمة والحياة قالوا إن الكلمة التي هي كلام اللّه اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء باللبن، وزعموا أن الأب إله والابن إله والروح إله والكل إله واحد واعلم أن هذا الكلام معلوم البطلان لبديهة العقل، فإن الثلاثة لا تكون واحدا والواحد لا يكون ثلاثة، ولا ترى في الدنيا مقالة أشد فسادا ولا أظهر بطلانا من مقالة النصارى وعلى هذا أخبر اللّه عنهم في قوله لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ فهذا معنى مذهبهم وإن لم يصرحوا بأنه واحد من ثلاثة آلهة فذلك لازم لهم وإنما يمتنعون من هذه العبارة لأنهم إذا قالوا : إن كل واحد من الأقانيم إله فقد جعلوه ثالث ثلاثة.
وقولهم بعد هذا : هو إله واحد فيه مناقضة لما قالوا أولا فهذا بيان فساد قول النصارى ثم رد اللّه عليهم فقال تعالى : وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ يعني أنه ليس في الوجود إله واحد موصوف بالوحدانية لا ثاني له ولا شريك له ولا والد له ولا ولد له ولا صاحبة له إلا اللّه تعالى : وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ يعني وإن لم ينته النصارى عن هذه المقالة الخبيثة لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني ليصيبن الذين أقاموا على هذا القول الخبيث وهذا الدين الذي ليس بمرضي عذاب وجيع في الآخرة وإنما قال تعالى منهم لعلمه السابق أن من النصارى من سيؤمن ويخلص ويترك هذا القول ويعلم أنه فاسد ثم ندب سائر النصارى إلى التوبة من هذه المقالة الخبيثة فقال تعالى : أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ يعني من قولهم بالتثليث وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وهذا استفهام بمعنى الأمر أي : توبوا إلى اللّه واستغفروه من هذا الذنب العظيم فإنه تعالى يغفر الذنوب وَاللَّهُ غَفُورٌ يعني لمن استغفره وتاب إليه رَحِيمٌ به وبسائر خلقه.
قوله عز وجل : مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ يعني أن المسيح رسول من اللّه عز وجل ليس بإله كما أن الرسل الذين كانوا من قبله لم يكونوا آلهة وقد أتى عيسى عليه السلام بالمعجزات الدالة على صدقه كما أن الذين من قبله أتوا بالمعجزات الدالة على صدقهم وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ يعني أنها كثيرة الصدق وقيل : سميت مريم صديقة، لأنها صدقت بآيات ربها وكتبه. وقوله تعالى : كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ في احتجاج على فساد قول النصارى بإلهية المسيح. يعني : أن المسيح وأمه مريم كانا بشرين يأكلان الطعام ويعيشان به كسائر بني آدم، فكيف يكون إلها من يحتاج إلى الطعام ولا يعيش إلا به؟ وقيل : معناه أنه لو كان إلها كما يزعمون لدفع عن نفسه ألم الجوع وألم العطش ولم يوجد ذلك فكيف يكون إلها وقيل هذا كناية عن الحدث وذلك أن كل من أكل وشرب لا بد له من الغائط والبول ومن كانت هذه صفته فكيف يكون إلها؟
وبالجملة فإن فساد قول النصارى أظهر من أن يحتاج إلى إقامة دليل عليه ثم قال تعالى : انْظُرْ الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم أي انظر يا محمد كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ يعني الدالة على بطلان قولهم ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي كيف يصرفون عن استماع الحق وقبوله.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٦ الى ٧٩]
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩)