لباب التأويل، ج ٣، ص : ٢١
لا يقدر أحد أن يتصرف في الوجود إلا بإذنه فتزيين الشيطان إلقاء الوسوسة فقط، ولا يقدر على إضلال أحد وهدايته إلا اللّه تعالى ويدل على هذا سياق الآية وهو قوله : ومن يضلل اللّه فما له من هاد، وقوله وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ قرئ بضم الصاد ومعناه صرفوا عن سبيل الدين والرشد والهداية ومنعوا من ذلك والصاد المانع لهم هو اللّه تعالى، وقرئ وصدوا بفتح الصاد ومعناه أنهم صدوا عن سبيل اللّه غيرهم أي عن الإيمان وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ الوقف عليه بسكون الدال وحذف الياء في قراءة أكثر القراء لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
يعني بالقتل والأسر ونحو ذلك مما فيه غيظهم وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ
يعني أشد وأغلظ لأن المشقة غلظ الأمر على النفس وشدته مما يكاد يصدع القلب من شدته فهو من الشق الذي هو الصدع وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ
يعني من عذاب اللّه مِنْ واقٍ
يعني من مانع يمنعهم من عذابه قوله تعالى مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي صفة الجنة التي وعد المتقون تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ لا ينقطع أبدا وَظِلُّها يعني أنه دائم لا ينقطع أبدا وليس في الجنة شمس ولا قمر ولا ظلمة بل ظل ممدود لا ينقطع، ولا يزول وفي الآية رد على جهم وأصحابه فإنهم يقولون : إن نعيم الجنة يفنى وينقطع وفي الآية دليل على أن حركات أهل الجنة لا تنتهي إلى سكون دائم. كما يقول أبو الهذيل واستدل القاضي عبد الجبار المعتزلي بهذه الآية على أن الجنة لم تخلق بعد. قال : ووجه الدليل أنها لو كانت مخلوقة لوجب أن تفنى وينقطع أكلها لقوله تعالى كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فوجب أن لا تكون الجنة مخلوقة لقوله : أكلها دائم يعني لا ينقطع قال ولا ينكر أن تكون في السموات جنات كثيرة تتمتع بها الملائكة، ومن يعد حيا من الأنبياء والشهداء وغيرهم على ما روي إلا أن الذي نذهب إليه أن جنة الخلد لم تخلق بعد. والجواب عن هذا أن حاصل دليلهم مركب من آيتين : إحداهما : قوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه، والأخرى قوله : أكلها دائم وظلها، فإذا أدخلنا التخصيص على هذين العمومين سقط دليلهم فنخص هذين الدليلين بالدلائل الدالة على أن الجنة مخلوقة. منها قوله تعالى : وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين. وقوله تعالى تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا يعني أن عاقبة أهل التقوى هي الجنة وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ يعني في الآخرة. قوله عز وجل وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ في المراد بالكتاب هنا قولان :
أحدهما أنه القرآن والذين أتوه المسلمون وهم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمراد أنهم يفرحون بما يتجدد من الأحكام والتوحيد والنبوة والحشر بعد الموت بتجدد نزول القرآن وَمِنَ الْأَحْزابِ يعني الجماعات الذين تحزبوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من الكفار واليهود والنصارى مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ وهذا قول الحسن وقتادة. فإن قلت : إن الأحزاب من المشركين وغيرهم من أهل الكتاب ينكرون القرآن كله فكيف قال ومن الأحزاب من ينكر بعضه.
قلت : إن الأحزاب لا ينكرون القرآن بجملته لأنه قد ورد فيه آيات دالّات على توحيد اللّه وإثبات قدرته وعلمه وحكمته، وهم لا ينكرون ذلك أبدا والقول الثاني أن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل والمراد بأهله الذين أسلموا من اليهود والنصارى مثل عبد اللّه بن سلام وأصحابه ومن أسلم من النصارى، وهم ثمانون رجلا أربعون من نجران وثلاثون من الحبشة وعشرة ممن سواهم فرحوا بالقرآن لكونهم آمنوا به وصدقوه، ومن الأحزاب يعني بقية أهل الكتاب من اليهود والنصارى وسائر المشركين من ينكر بعضه. وقيل : كان ذكر الرحمن قليلا في القرآن في الابتداء فلما أسلم عبد اللّه بن سلام ومن معه من أهل الكتاب من اليهود والنصارى ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة، فلما كرر اللّه تعالى ذكر لفظة الرحمن في القرآن فرحوا بذلك فأنزل اللّه تعالى والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب يعني مشركي مكة من ينكر بعضه وذلك لمّا كتب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كتاب الصلح يوم الحديبية كتب فيه بسم اللّه الرحمن الرحيم فقالوا ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب فأنزل اللّه وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي وإنما قال ومن الأحزاب من ينكر بعضه لأنهم كانوا لا ينكرون اللّه وينكرون الرحمن قُلْ أي قل يا محمد إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ يعني وحده


الصفحة التالية
Icon