لباب التأويل، ج ٣، ص : ٣١٥
حجرا فعبده ما حاله عندي وقيل الهوى إله يعبد أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أي حافظا تحفظه من اتباع الهوى وعبادة ما يهواه من دون اللّه والمعنى لست كذلك وقال الكلبي نسختها آية القتال أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أي ما تقول سماع طالب الإفهام أَوْ يَعْقِلُونَ يعني ما يعاينون من الحجج والأعلام وهذه المذمة أعظم من التي تقدمت، لأنهم لشدة عنادهم لا يسمعون القول وإذا سمعوه لا يتفكرون فيه، فكأنهم لا سمع لهم ولا عقل البتة فعند ذلك شبههم بالأنعام فقال تعالى إِنْ هُمْ أي ما هم إِلَّا كَالْأَنْعامِ أي في عدم انتفاعهم بالكلام وعدم إقدامهم على التدبر والتفكير ثم قال تعالى بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا لأن البهائم تهتدي لمراعيها ومشاربها وتنقاد لأربابها الذين يتعاهدونها، وهؤلاء الكفار لا يعرفون طريق الحق ولا يطيعون ربهم الذي خلقهم ورزقهم لأن الأنعام تسجد وتسبح والكفار لا يفعلون ذلك.
قوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس جعله ممدودا، لأنه ظل لا شمس معه وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً يعني دائما ثابتا لا يزول ولا تذهبه الشمس ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا معنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن الشمس لما عرف الظل، ولولا النور لما عرفت الظلمة، والأشياء تعرف بضدها ثُمَّ قَبَضْناهُ يعني الظل إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً يعني بالشمس التي تأتي عليه والمعنى أن الظل يعم جميع الأرض قبل طلوع الشمس فإذا طلعت الشمس قبض اللّه الظل جزأ فجزأ قبضا خفيفا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً يعني سترا تسترون به والمعنى أن الظلمة الليل تغشى كل شيء كاللباس، الذي يشتمل على لابسه وَالنَّوْمَ سُباتاً يعني راحة لأبدانكم وقطعا لأعمالكم وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً يعني يقظة وزمانا تنتشرون فيه لابتغاء رزقكم وطلب الاشتغال وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ يعني المطر وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً الطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره فهو اسم لما يتطهر به بدليل ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال في البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.
وأراد به المطهر والماء المطر لأنه يطهر الإنسان من الحدث والنجاسة فثبت أن التطهير مختص بالماء وذهب أصحاب الرأي إلى أن الطهور وهو الطاهر حتى جوزوا إزالة النجاسة بالمائعات الطاهرة مثل الخل والريق ونحوها، ولو جاز إزالة النجاسة بها لجاز إزالة الحدث بها وذهب بعضهم إلى أن الطهور ما تكرر منه التطهير، وهو قول مالك حتى جوز الوضوء بالماء إذا توضئ به مرة، وإن وقع في الماء شيء غير طعمه أو لونه أو ريحه هل تزول طهوريته نظر إن كان الواقع شيئا لا يمكن صون الماء عنه، كالطين والتراب وأوراق الأشجار فتجوز الطهارة به كما لو تغير بطول المكث في قراره، وكذلك لو وقع فيه ما لا يختلط كالدهن يصب فيه فيتروح الماء برائحته تجوز الطهارة به لأن تغيره للمجاورة لا للمخالطة، وإن كان شيئا يمكن صون الماء عنه، ومخالطته كالخل والزعفران ونحوهما تزول طهوريته فلا يجوز الوضوء به وإن لم يتغير أحد أوصافه نظر إن كان الواقع شيئا طاهرا لا يزيل طهوريته يجوز الوضوء به سواء كان الماء قليلا أو كثيرا، وإن كان الواقع شيئا نجسا نظر فيه فإن كان الماء، أقل من قلتين نجس الماء وإن كان قدر قلتين فأكثر فهو طاهر يجوز الوضوء به والقلتان خمسمائة رطل بالبغدادي يدل عليه ما روي عن ابن عمر عن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنه سئل عن الماء يكون في الفلاة، ترده السباع والذئاب فقال :«إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث» أخرجه أبو داود والترمذي.
وهذا قول الشافعي وأحمد وإسحاق وجماعة من أهل الحديث، أن الماء إذا بلغ هذا الحد لا ينجس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير أحد أوصافه، وذهب جماعة إلى أن الماء القليل لا ينجس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير طعمه أو لونه أو ريحه، وهذا قول الحسن وعطاء والنخعي والزهري واحتجوا بما روي عن أبي سعيد الخدري قال :«قيل يا رسول اللّه إنه يستقى لك من بئر بضاعة ويلقى فيها لحوم الكلاب وخرق الحيض وعذر النساء، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إن الماء طهور لا ينجسه شي ء» وفي رواية قال «قلت يا رسول اللّه أيتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر تطرح فيها خرق الحيض ولحوم الكلاب والنتن


الصفحة التالية
Icon