لباب التأويل، ج ٤، ص : ١٠٦
وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يعني كاستهزاء قومك بك وفيه تسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً أي أقوى من قومك قوة وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي صفتهم والمعنى أن كفار قريش سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم فليحذروا أن ينزل بهم مثل ما نزل بالأولين من الخزي والعقوبة.
قوله عز وجل : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي ولئن سألت يا محمد قومك مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ يعني أنهم أقروا بأن اللّه تعالى خلقهما وأقروا بعزته وعلمه ومع إقرارهم بذلك عبدوا غيره وأنكروا قدرته على البعث لفرط جهلهم ثم ابتدأ تعالى دالا على نفسه بذكر مصنوعاته فقال تعالى : الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً معناه واقفة ساكنة يمكن الانتفاع بها ولما كان المهد موضع راحة الصبي فلذلك سمى الأرض مهادا لكثرة ما فيها من الراحة للخلق وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا أي طرقا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ يعني إلى مقاصدكم في أسفاركم وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ أي بقدر حاجاتكم إليه لا كما أنزل على قوم نوح حتى أهلكهم فَأَنْشَرْنا بِهِ أي بالمطر بَلْدَةً مَيْتاً أي كما أحيينا هذه البلدة الميتة بالمطر كَذلِكَ تُخْرَجُونَ أي من قبوركم أحياء وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أي الأصناف والأنواع كلها قيل إن كل ما سوى اللّه تعالى فهو زوج وهو الفرد المنزه عن الأضداد والأنداد والزوجية وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ يعني في البر والبحر.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١٣ الى ١٨]
لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧)
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨)
لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ أي على ظهور الفلك والأنعام ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ يعني بتسخير المركب في البر والبحر وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا أي ذلل لنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أي مطيقين وقيل ضابطين وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أي لمنصرفون في المعاد (م) عن ابن عمر رضي اللّه عنهما «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان إذا استوى على بعيره خارجا للسفر حمد اللّه تعالى وسبح وكبر ثلاثا ثم قال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هون سفرنا هذا واطو عنا بعده اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في الأهل والمال والولد وإذا رجع قالهن وزاد فيهم آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون» قوله وعثاء السفر : يعني تعبه وشدته ومشقته وكآبة المنظر وسوء المنقلب الكآبة الحزن والمنقلب المرجع وذلك أن يعود من سفره حزينا كئيبا أو يصادف ما يحزنه في أهل أو مال.
عن علي بن أبي ربيعة قال «شهدت علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه وقد أتي بدابة ليركبها فلما وضع رجله في الركاب قال بسم اللّه فلما استوى على ظهرها قال الحمد للّه سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ثم قال الحمد للّه ثلاث مرات ثم قال اللّه أكبر ثلاث مرات ثم قال سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك فقلت يا أمير المؤمنين مم ضحكك قال رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فعل كما فعلت فقلت يا رسول اللّه من أي شيء ضحكت قال إن ربك يعجب من عبده إذا قال رب اغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب غيرك» أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن غريب.
قوله تعالى : وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً يعني ولدا وهو قولهم الملائكة بنات اللّه لأن الولد جزء من الأب