لباب التأويل، ج ٤، ص : ١٨٣
قوله تعالى : وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي لا يتناول بعضكم بظهر الغيب بما يسوءه مما هو فيه. عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال «أ تدرون ما الغيبة؟ قلت اللّه ورسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكره قلت وإن كان في أخي ما أقول قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه قد بهته». أخرجه مسلم عن عائشة قالت :«قلت للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم حسبك من صفية كذا وكذا قال بعض الرواة تعني قصيرة فقال لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته قالت وحكيت له إنسانا فقال ما أحب أني حكيت إنسانا وإن لي كذا وكذا» أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح، قوله : لمزجته أي خالطته مخالطة يتغير بها طعمه وريحه لشدة نتنها وقبحها وهذا الحديث من أبلغ الزواجر عن الغيبة.
قوله تعالى : أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ قال مجاهد : لما قيل أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا قالوا لا قيل فكرهتموه أي كما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بسوء غالبا قيل تأويله إن ذكرك من لم يحضرك بسوء بمنزلة أكل لحمه وهو ميت لأنه لا يحس بذلك وفيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كلحمه ودمه لأن الإنسان يتألم قلبه إذا ذكر بسوء كما يتألم جسده إذا قطع لحمه والعرض أشرف من اللحم فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحم الناس فترك أعراضهم أولى وقوله لحم أخيه آكد في المنع آكد لأن العدو قد يحمله الغضب على أكل لحم عدوه، وقوله ميتا أبلغ في الزجر.
عن أنس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :«لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم ولحومهم وفي نسخة وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» أخرجه أبو داود وقال ميمون بن سيار بينا أنا نائم إذا بجيفة زنجي وقائل يقول كل يا عبد اللّه قلت وما آكل؟ قال كل بما اغتبت بعد فلان قلت واللّه ما ذكرت فيه خيرا ولا شرا قال : ولكنك استمعت ورضيت، فكان ميمون لا يغتاب أحدا ولا يدع أحدا يغتاب أحدا عنده.
قوله تعالى : وَاتَّقُوا اللَّهَ أي في أمر الغيبة واجتناب نواهيه إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ قوله عز وجل :
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٣]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى قال ابن عباس : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. وقوله في الرجل الذي لم يفسح له ابن فلانة فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : من الذاكر فلانة؟ قال ثابت : أنا رسول اللّه قال انظر في وجوه القوم فنظر فقال ما رأيت يا ثابت؟ قال رأيت أبيض وأحمر وأسود قال فإنك لا تفضلهم إلا بالدين والتقوى فنزلت في ثابت هذه الآية ونزل في الذي لم يفسح له يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا الآية. وقيل : لما كان يوم فتح مكة أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بلالا حتى علا على ظهر الكعبة وأذن فقال عتاب بن أسيد الحمد للّه الذي قبض أبي ولم ير هذا اليوم وقال الحارث بن هشام أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا وقال سهيل بن عمرو إن يكره اللّه شيئا يغيره.
وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبره رب السماء فنزل جبريل فأخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بما قالوا وسألهم عما قالوا فأقروا فأنزل اللّه هذه الآية وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والإزراء بالفقراء فقال يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى يعني آدم وحواء. والمعنى : إنكم متساوون في النسب فلا تفاخر لبعض على بعض لكونكم أبناء رجل واحد وامرأة واحدة. وقيل : يحتمل أن يكون المعنى إنا خلقنا كل واحد منكم أيها الموجودون من أب وأم فإن كل واحد منكم خلق كما خلق الآخر سواء فلا وجه للتفاخر والتفاضل في


الصفحة التالية
Icon