لباب التأويل، ج ٤، ص : ٢٠٤
في صورة الآدميين كما كان يأتي الأنبياء قبله فسأله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يريه نفسه على صورته التي جبل عليها فأراه نفسه مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء فأما التي في الأرض فبالأفق الأعلى والمراد بالأفق الأعلى جانب المشرق وذلك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان بحراء، فطلع له جبريل عليه الصلاة والسلام من ناحية المشرق، فسد الأفق إلى المغرب فخرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مغشيا عليه فنزل جبريل عليه، الصلاة والسلام في صورة الآدميين فضمه إلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه وهو قوله تعالى : ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى وأما التي في السماء فعند سدرة المنتهى ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة التي خلق عليها إلا نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم قوله تعالى : ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى.
اختلف العلماء في معنى هذه الآية فروي عن مسروق بن الأجدع قال «قلت لعائشة فأين قوله ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى؟ قالت ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجل وإنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد الأفق» أخرجاه في الصحيحين.
وعن زر بن حبيش في قوله تعالى : فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى وفي قوله ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى وفي قوله لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى قال : فيها كلها أن ابن مسعود قال «رأى جبريل عليه الصلاة والسلام له ستمائة جناح» زاد في رواية أخرى «رأى جبريل في صورته» أخرجه مسلم والبخاري في قوله تعالى : فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى فعلى هذا يكون معنى الآية ثم دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض فتدلى إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فكان منه قاب قوسين أو أدنى أي : بل أدنى وبه قال ابن عباس والحسن وقتادة.
وقيل : في الكلام تقديم وتأخير تقديره ثم تدلى فدنا لأن التدلي سبب الدنو. وقال آخرون : ثم دنا الرب عز وجل من محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فتدلى أي فقرب منه حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى وقد ورد في الصحيحين في حديث المعراج من رواية شريك بن عبد اللّه بن أبي نمر عن أنس ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى.
وهذه رواية أبي سلمة عن ابن عباس والتدلي هو النزول إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم. قال الحافظ عبد الحق في كتابه. الجمع بين الصحيحين، بعد ذكر حديث أنس من رواية شريك، وقد زاد فيه زيادة مجهولة وأتى فيه بألفاظ غير معروفة.
وقد روى حديث الإسراء جماعة من الحفاظ المتقنين كابن شهاب وثابت البناني وقتادة يعني عن أنس فلم يأت أحد منهم بما أتى به وفي رواية شريك قدم وآخر وزاد ونقص فيحتمل أن هذا اللفظ من زيادة شريك في الحديث وقال الضحاك دنا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم من ربه عز وجل فتدلى أي فأهوى للسجود فكان منه قاب قوسين أو أدنى والقاب القدر والقوس الذي يرمي به وهو رواية عن ابن عباس. وقيل : معناه حيث الوتر من القوس فأخبر أنه كان بين جبريل ومحمد صلّى اللّه عليه وسلّم مقدار قوسين وهذا إشارة إلى تأكيد القرب وأصله أن الحليفين من العرب كانا إذا أرادا عقد الصفاء والعهد بينهما خرجا بقوسيهما فألصقا بينهما يريد أن بذلك أنهما متظاهران يحامي كل واحد منهما عن صاحبه. وقال عبد اللّه بن مسعود : قاب قوسين قدر ذراعين والقوس الذراع التي يقاس بها من قاس يقيس أو أدنى بل أقرب فَأَوْحى
أي فأوحى اللّه إِلى عَبْدِهِ
محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ما أَوْحى
وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال أوحى جبريل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما أوحى إليه ربه عز وجل وقال سعيد بن جبير : أوحى إليه أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى إلى قوله وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ وقيل : أوحى إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها أنت وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك قوله عز وجل : ما كَذَبَ الْفُؤادُ قرئ بالتشديد أي ما كذب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ما رَأى أي بعينه تلك الليلة بل صدقه وحققه وقرئ بالتخفيف أي ما كذب فؤاد محمد الذي رآه بل صدقه والمعنى : ما كذب الفؤاد فيما رأى. واختلفوا في الذي رآه، فقيل : رأى جبريل وهو قول ابن عباس وابن مسعود وعائشة وقيل : هو اللّه عز وجل ثم اختلفوا في معنى الرؤية فقيل جعل بصره في فؤاده وهو قول ابن عباس (م). عن ابن عباس ما